Show Menu
True Story Award 2021

منفى الزعيم.. رحلة البحث عن سعد زغلول في مالطا

لا بد لنا من قارعة!

أربع كلمات كان يرددها سعد زغلول قبل نفيه بأيام. كان يؤمن بأنه لا بد من قارعة- حدث صادم- ليثور الشعب على الاحتلال البريطاني. دقت القارعة بنفيه إلى مالطا، واشتعلت ثورة 1919، ثم عاد. وحدث ما حدث، وروى ما روى، وأصبحت ثورة 1919 تاريخًا يسعى الجميع لقراءته.

وبعد زمن بعيد (100 عام) بالتمام والكمال، كان هناك صفحة مطوية لم يقربها أحد، ربما لبعد المكان.. مكان المنفى!

كنت أظنه مكانًا معلومًا، يمكنني معرفته من بحث قصير على شبكة الإنترنت، ثم زيارته.

خاب ظني.. دقت في أذني متلازمة سعد زغلول (مفيش فايدة!). أؤذن في مالطا ولا يجيبني أحد. لا وثائق، لا مصادر، ولا معلومات.

قصة صغيرة، تحولت إلى مهمة صعبة، بل شبه مستحيلة، انتهت بالوصول، تأريخ التاريخ، وكتابة صفحة جديدة في مجلد ثورة 1919، وأحد أهم دعاة التغيير في مصر.. الزعيم الثائر سعد زغلول.

ومن المجهول إلى الوصول، أدعوكم إلى مرافقتي في رحلة البحث عن منفى الزعيم.

لا أحد يعرف سعد زغلول في مالطا!

"أرض الله واسعة، فلا تحصر سعادتك في بقعة منها! وفي أي محل حللت اجعله وطنًا لك، وافرض أنك بقيت فيه إذا لم تستطع أن تعد إلى وطنك الأصلي.."

سعد زغلول
مالطا
8 أبريل 1919

على عكس ما افترض الزعيم سعد زغلول بأنه سيبقى في منفاه بمالطا إلى الأبد، لم يكن لدي وقت داخل الجزيرة الأوروبية حاليًا - متعددة التبعية سابقًا - سوى 5 أيام فقط للبحث عنه.

8 مارس سنة 1919..

قبل يومين من هذا التاريخ، دعا الجنرال واطسون قائد القوات البريطانية في مصر، سعد زغلول وأعضاء حزب الوفد إلى مقره بفندق "سافواي أوتيل"، دارت بينهم مناقشة قصيرة، لكنها كانت حادة، انتهت بتهديد الوفديين بالعقاب.. وقد كان.

في تمام الخامسة عصرًا من يوم الجمعة الثامن من مارس 1919، قُبض على سعد زغلول ومحمد محمود، وإسماعيل صدقي، "لم يخطر ببالي النفي، ولكن السجن إلى زمن ما.." يقول الزعيم، وفي اليوم التالي جاء أمر أحد الضباط "استعدوا للسفر..".

ومن الأوتومبيلات، إلى القطار إلى ميناء بورسعيد، وجد سعد زغلول نفسه على متن الباخرة "كاليدونيا" ولا يعرف إلى أين وجهته".
**

بعد مائة عام من هذه الأحداث، كنت أظن أن مهمتي سهلة، قبيل السفر إلى مالطا بدأت البحث عبر شبكة الإنترنت عن منفى الزعيم "أين نفي سعد زغلول في مالطا؟"، أدخلت كلمات البحث بجميع اللغات في مستطيل Google، العربية، الإنجليزية، وحتى الفرنسية.. لكنني لم أجد ثمة نتيجة واحدة تشير إلى موقع أو مسمى المكان الذي نُفي فيه سعد زغلول ورفاقه الوفديون في مالطا.

كان طرق أبواب حزب الوفد هو خياري الأول، هاتفت سكرتير الحزب طارق التهامي.. أبدى تعجبه من استفساري في البداية، ثم أجاب باختصار "لا أعرف".

كان لا مفر من العودة إذًا إلى الماضي وخبرائه، هاتفت أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة محمد عفيفي، والذي عمل مستشارًا تاريخيًا لفيلم وثائقي أُعد مؤخرًا عن ثورة 1919، وكانت إجابته "لا ده موضوع محتاج بحث.. كلميني كمان كام يوم".. أما الدكتور إيمانويل بواتينج، كبير المحاضرين بقسم التاريخ بجامعة مالطا، كان رده عبر البريد الإلكتروني "لسوء الحظ، لا يمكنني مساعدتك، لكنني أعدتُ توجيه استفسارك إلى زملاء لي".

نصحني الدكتور محمد عفيفي ذات مساء بالعودة إلى مذكرات الزعيم في متحف سعد زغلول الذي يعرف بـ"بيت الأمة"، لم أنتظر الصباح، حصلت على نسخة إلكترونية من المذكرات، وبعد ساعات من القراءة، وصلت إلى المجلد التاسع.

**
13 مارس 1919

صباح الخميس الثالث عشر من مارس 1919، وقفت الباخرة "كاليدونيا" بعيدًا عن الشاطئ، لم تكن مالطا هي وجهتها الأخيرة، نزل الوفديون المنفيون إلى زورق بخاري صغير، وواصلت " كاليدونيا " طريقها، "كان الزورق صغيرًا جدًا، لا يسع سوى نفرين.. فنقلنا اثنين اثنين، وسار بنا نحو المرسى في حوالي نصف ساعة".. يحكي سعد.

كان المرسى خاليًا من أي شخص، تحدث الضابط المرافق لهم في الهاتف ذي القرص المعدني المعلق في المرسى، فحضرتْ العربات "أخذنا في عربات صغيرة جدًا عليها مظلات، حملتنا وصعدنا إلى قلعة بولفارستا".
**

قلعة بولفارستا.. وجدتها أخيرًا، عدت إلى مستطيل Google من جديد، بحثت بالعربية.. الإنجليزية، وكانت المفاجأة أنني لم أجد لها أثر.

قررت أن أبحث عن قلاع مالطا في العموم، وجدت ثلاث قلاع رئيسية، وعشرات الحصون والأبراج الأثرية، ليس من بينها اسم بولفارستا أو أي اسم مشابه له.. لكنه بالتأكيد سيتغير الأمر على الأرض.. هكذا فكرت.

** خريطة مالطا والقلاع الثلاث الرئيسية**

سانت أنجيلو
بيرجو
كانت تدعى قلعة Castrum Maris بنيت في القرن الثالث عشر، سيطر عليها حكام صقلية، ثم استخدمها فرسان مالطا بين ثلاثينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر مخزنًا للوقود، وأصبحت تعرف باسم "سانت أنجيلو".
لقلعة الكبيرة
جوزو
بنيت في العصور الوسطى بالقرن الثالث عشر، كمدينة مرتفعة، ثم تحولت فيما بعد إلى قلعة كبيرة، استخدمها رجال الاحتلال على مر العصور كقلعة بارود.

قلعة مدينة
مدينة
بنيت في العصور الوسطى جزءًا من تحصينات "مدينة" تم هدمها بقرار ملكي عام 1453، مع الاحتفاظ بجدرانها الخارجية، وتم هدم جدرانها الخارجية المتبقية في عشرينيات القرن الثامن عشر.

13 مارس 1919

"صعدنا إلى قلعة تسمى بولفارستا، وأدخلنا الضابط إلى قسم منها مؤلف من ثلاث طبقات على هيئة قشلاق، وتخصص لنا فيه مسكنان، يتألف كل واحد منهما من ثلاث غرف مبلطة، ولا سجاد، ولا حصير فيها، ولا أمتعة سوى بعض كراسٍ وترابيزات!

وكان البرد قارسًا والهواء عاصفًا..

وقد رأينا - عند دخولنا - أحد المصريين، وعلى رأسه عمامة، يدعى محمد إبراهيم من موظفي معية الخديوي، فاستقبلنا بالبشاشة، كأنه كان يعرفنا من قبل!
وقد ارتبت في شأنه في أول الأمر، لأني تخيلت أنه جاسوس، ولكن لم يتأيد ذلك، وهو الآن في خدمتنا، ويسارع إلى قضاء لوازمنا" - سعد زغلول.
**

بدت الجزيرة التي لا تتعدى مساحتها 316 كم مربع من نافذة الطائرة تمامًا مثلما تبدو في الخرائط، ثلاث جزر متجاورة، ترتفع عن سطح البحر، تعج بالمباني والأسوار، تبدو حدودها واضحة من جميع الجهات في هيئة هضاب عالية، يتخللها ألسنة مائية يفصلها خلجان رفيعة داخل البحر المتوسط، أصبحت موانئ طبيعية لليخوت الفارهة.. وقليل من المساحات الخضراء.

أما على الأرض، فالمنفى لم يعد منفى، الجزيرة السياحية التي تعج بالبشر، ترك كل من مر عليها أمارة تشهد أنه مر من هنا، حتى أنك أحيانا تضيع بين أوجه الشبه والاختلاف بينها وبين مختلف البلدان من جميع قارات الكرة الأرضية.

"هؤلاء مروا على مالطا"

800 قبل الميلاد
الاستعمار الفينيقي

480 قبل الميلاد
الهيمنة القرطاجية

218 قبل الميلاد
الهيمنة الرومانية


395 ميلادية
الهيمنة البيزنطية


870 ميلادية
الهيمنة العربية


1090 ميلادية
احتلال النورمانديين


1530 ميلادية
وصول فرسان القديس يوحنا إلى مالطا


1798 ميلادية
الاحتلال الفرنسي


1814 ميلادية
الاحتلال البريطاني


1964 ميلادية
الاستقلال داخل الكومنولث البريطاني


2004 ميلادية
مالطا داخل الاتحاد الأوروبي


مطار لوقا الدولي

منذ اللحظة الأولى داخل مطار لوقا الدولي الذي يقع في منتصف مالطا، بدأت التعامل باللغة الإنجليزية، فالجزيرة الواقعة في منطقة شنجن، تتساوى فيها اللغتان الإنجليزية والمالطية، كلتاهما رسميتان، لكن أذني كانت تلتقط بين الحين والآخر كلمة باللغة العربية، لم أعر للأمر اهتمامًا في البداية، حتى سألت رجلًا من أمن المطار عن طريق الخروج، فوجدته يفسر لزميله ما قلته بكلمات عربية مفهومة.

تتشابه العربية والمالطية إلى حد كبير، خاصة اللكنة الليبية.. لكن المالطيين لا يحبون هذا التشبيه، ويتشبثون بكل ما يثبت أنهم أوروبيون.

فبالرغم من تشابه شوارعهم بشوارع بلاد الشام، مرتفعات ومنخفضات، وأسوار من أحجار عتيقة، إلا أن سياراتهم ذات طراز أوروبي، ومقاعد قيادة يمينية.

وبالرغم من أن أسماء المناطق عربية خالصة مثل "مدينة.. مرسى.. حمرون.. سليمة"، إلا أنها مكتوبة بحروف أجنبية على لافتات طرق ملونة أوروبية الشكل.

سليمة..

بعد نصف الساعة وصلت إلى "سليمة"، مدينة ساحلية تقع على أحد الألسنة المائية، ترسو على جانبيها السفن بجميع أشكالها، من القوارب الصغيرة إلى اليخوت الفارهة.

يطلقون عليها منطقة الأثرياء، لازدحامها بالسائحين من جميع الجنسيات، والمتاجر والملاهي الليلية المقابلة للبحر، لكن مبانيها العشوائية الحديثة لم تكن تتميز بأي شبه لجمال أو طراز.

بعد أن انتهت موظفة استقبال فندق سانت أزور من إجراءات تسكيننا، سألتها على الفور عن قلعة "بولفارستا"، بدا على وجهها الأبيض المستدير ذي الملامح الدقيقة علامات التعجب، قلت لها موضحة "قلعة قديمة.. كانت تستخدم كسجن سياسي"، أخرجت ورقة حمراء من أسفل منصة الاستقبال الرخامية، مرسوم عليها خريطة مالطا السياحية، ومسارات الحافلات التي تأخذ الطريق إليها، أخبرتني أن هناك قلعة تشبه تلك التي أقصدها في جزيرة "جوزو"، "يجب أن تركبوا الحافلة رقم 222.. وبعد نهاية الخط، تستقلون الباخرة.. تستغرق الرحلة حوالي الساعتين".. صمتت قليلا قبل أن تضيف "يفضل القيام بهذه الرحلة في النهار".

كان الذهاب إلى "جوزو" - إحدى الجزر المالطية الثلاث هو الخيار الوحيد، لا يوجد فرصة أخرى في الأيام الخمس للتحرك نهارًا، استغرقت الحافلة "222" ساعة ونصف مقابل تذكرة ثمنها "2 يورو" تصلح للعودة أيضًا، أما مرسى الباخرة فكان أشبه بمحطة قطار، مكتوب على شباك تذاكره باللغة الإنجليزية "اذهب مجانًا وادفع عند العودة".

وبعد 20 دقيقة من الإبحار داخل البحر المتوسط، وصلت الباخرة إلى "جوزو".

**
المساكن - على العموم - نظيفة، ويتعهد نظافتها فريق من الأسرى الأتراك.

ويوجد في هذا البناء مطابخ، لكل جماعة مطبخ على الحكومة نفقاته بقدر معين، من جميع اللوازم لكل أسير.

وفي هذا البناء محل تباع فيه أكثر لوازم المعيشة، يسمى "كانتين" وأثمان الأشياء فيه محددة، وله متعهد مخصوص من العساكر.

والمكان على مرتفع يشرف على البحر، والمنظر فيه حسن وجميل..
**

جوزو..


صعد بنا سائق التاكسي إلى مرتفع داخل "فيكتوريا"، عاصمة "جوزو" القديمة، "لا يوجد قلعة أخرى في جوزو سوى القلعة التي في فيكتوريا".. يقول السائق.

تجاوزنا شوارع فيكتوريا الضيقة، ذات المباني الأوروبية القديمة، وصعدنا إلى المرتفع الأخير نحو القلعة سيرًا على الأقدام.


نحت اسم القلعة باللغة المالطية داخل حائط رخامي كبير، يبدو أنه حديث"CITTADELAA .. CENTRU GHALL VIZITATURI VISITORS CENTRE"، يعني "القلعة الكبيرة.. ترحب بالزائرين في مركز الزوار".

بدأت بالأسئلة من عند رجل الأمن، "هل هذه القلعة كانت تسمى بولفارستا، هل هي الوحيدة في جوزو، هل كانت تستخدم سجنًا قديمًا، هل تعرف سياسيًا مصريًا قديمًا يدعى سعد زغلول نفي هنا؟".. كانت الإجابة عن جميع الأسئلة "لا أعلم".

بدت القلعة مبنى حجريًا عملاقًا مقسمًا إلى ثلاثة طوابق، تعلوه ساعة حائط، أمامه لافتة زجاجية تحتوي على بعض المعلومات عن التغيرات التي طالته على مر العصور باللغتين الإنجليزية والمالطية، مكتوب عليها "كان الوصول من المدينة إلى القلعة في الأصل عبر سلالم، أثناء الحكم العربي، استبدلت فيما بعد بجسر حجري كان يدعى الربط.. ما زال متبقيًا جزء منه في سطح القلعة، وفي نهاية المطاف أصبح هناك - رامب - يقود نحو الزاوية الصحيحة إلى المدخل المختتم برسم".

يقودنا "الرامب" إلى مدخل القلعة، يتصدره لوح زجاجي مقسوم إلى نصفين، تبدو من خلفهما اللوحة المرسومة للقلعة، نتجاوز الدهاليز المكشوفة، التي تقع على جوانبها بعض الغرف المغلقة، نواصل في الصعود فنجد مبنيين مكونين من طابقين، ذات شبابيك خشبية قديمة مغلقة، تتوسطها كنيسة جوزو الكاثوليكية، التي بنيت على أنقاض معبد يوناني في القرن الثالث عشر.

على أحد الجوانب ثمة مدخل، يقود إلى الجهة الأخرى من الغرف لإحدى المبنيين، ممر حجري به غرف ذات شبابيك معدنية أصغر، تشبه شبابيك الزنانين، وأبواب معدنية مغلقة بأقفال على ما كان يدور بداخلها من حياة، وأخرى ذات أبواب معدنية تكشف عما بداخلها من أجراس كبرى تخص الكنيسة.

يقبع متحف القلعة في بداية الممر، يجيب الموظف الذي كان بالداخل على عجالة "نعم كانت تستخدم معتقلاً قديمًا منذ القرن السادس عشر وحتى عام 1962" لكنه، لا يعرف من هو سعد زغلول، وما إذا كان مر عليها معتقلون مصريون أم لا؟ّ!.. وأجاب بالنفي عما إذا كانت هناك سجلات أو شواهد تشير إلى شخصيات من اعتقلوا قديمًا داخل القلعة.

لم تختلف إجابات العشرات ممن كانوا يزورون القلعة أيضًا، أغلبهم كانوا يحملون الجنسيات الإيطالية والروسية، فما أدراهم بتاريخ مصر أو مالطا؟!


كشف سطح القلعة عن المزيد من الغرف، ذات الشبابيك والأبواب الموصدة، ومدفع وحيد يشبه مدفع قلعة صلاح الدين الأيوبي.

من أعلى تستطيع أن ترى الجزيرة بأكملها، والبحر من جميع الجهات.

**
كان من المسموح لكل من في المكان الذي أنزلت به، أن يزور - في أوقات معينة من الأسبوع - أسرى الأماكن الأخرى.

وقد بعث إلينا عند قدومنا الأمير ابن عم ملك رومانيا الأسير في كامب "فيرولا"، خطابا رقيق الحاشية، فرددنا عليه عملا بقواعد حسن المجاملة.. ولكنا لا نريد أن تتصل المعرفة بيننا.

**
فيرولا.. أو فلوريانا..

كانت جريدة TIMES OF MALTA نشرت قصة قبل عام، تحكي عن حفيد رسام تركي، أعتقل جده في القرن التاسع عشر في فلوريانا، فقرر أن يقطع أميالًا بالقارب البخاري كل عام إلى مالطا، كي يقضي عطلة الصيف على هذه الأرض، بحثًا عن ذكراه.

عدت للسؤال من جديد عن فيرولا، صححها المالطيون لي حيث تدعى "فلوريانا".. ولحسن الحظ، كانت اجتماعات العمل اليومية تقام في فلوريانا، تلك المدينة المحصنة منذ عام 1636، لا يوجد بداخلها أي قلاع، لكنها ممتلئة بالأبراج الأثرية المطلة على البحر التي لم تعد تحتفظ بأسمائها القديمة، تستخدم حاليًا لمختلف الأغراض، مطاعم، ومراكز تجارية.. أحدها كان مكتب الاتحاد الأوروبي لدعم اللجوء، الذي كنا نجتمع يوميًا به.

سألت إحدى الموظفات العربيات داخل الاتحاد الأوروبي، عن كل ما سبق، "قلعة بولفارستا - السجن القديم - سعد زغلول"، نصحتني بأن أسأل أحد زملائها مالطي الجنسية، "ألكسايس ماكلين" شاب ثلاثيني ذي ملامح أوروبية يرتدي ملابس رسمية.. قال لي إنه لا أحد في مالطا يستطيع أن يجيب عن أسئلتي، الشعب المالطي لا يهتم بالتاريخ، كما أنه توافد عليه جميع أنواع الاحتلال، ومختلف المعتقلين من شتى دول العالم، فبالتأكيد لا يعنيهم اسم سياسي مصري أعتقل هنا قبل مائة عام.

صمت قليلًا، ثم قال وكأنه يحاول مساعدتي "في مالطا القليل من المصريين، والكثير من العرب.. ربما يعرفون"، ثم نصحني بإرسال E - MAIL للسفارة المصرية في مالطا.


**
7 إبريل 1919

منذ يومين أخلى لنا مسكن ثالث فأخذه محمد باشا محمود، وأصبح لكل منا مسكن قائم بذاته مؤلف من ثلاث غرف.

وقد خفف عنا هذا ما كنا نجده من المضايقة أول الأمر، فأصبح لنا غرفة للأكل، وصالون نجتمع فيه أغلب اليوم وبعض الليل، ونلعب الورق ونستقبل الزائرين، ولكل منا غرفة للنوم وأخرى للعمل، ولكن لا يزال المتاع دون الكفاية.

ونحن على مائدة اللعب في الساعة الثامنة تقريبًا، حضر فيظي بك حسني متهللًا وهو يقول: "الضابط اليوم كان ينتظر قدوم مصريين مبعدين من مصر".

فاعترتنا الدهشة من تهلله لهذا الخبر، ومن مسارعته لإبلاغنا إياه..

**

لم أتردد قبل أن أنفذ نصيحة "ألكسايس"، أرسلت رسالة إلكترونية إلى السفارة المصرية في مالطا على الفور، كان هذا في يوم الثلاثاء، 2 يوليو 2019، على أمل أن أحصل على أي إجابة، قبل أن أغادر في اليوم الخامس من الشهر، لكنني لم أحصل عليها حتى الآن.

على إحدى محطات الحافلات، التقيت بأحد المصريين النادري الظهور في مالطا، يدعى "هاني" - عامل في أحد المطاعم - والذي كان أيضًا لا يعرف شيئًا عن منفى سعد زغلول في مالطا.. وبالطبع لم يكن هذا كافيًا.

حمرون..

حاولت التواصل مع الجالية المصرية في مالطا، لكن أحدًا لم يعر اهتمامًا، فطرقت أبواب الجالية العربية، دعاني سكرتير الجالية سعيد زينو، مساء اليوم الثالث، إلى مطعمه السوري "دمشق"، الواقع بحي حمرون - حي متواضع بالقرب من العاصمة يسكن به أغلب السوريين في مالطا.

وهناك التقيت بنائب رئيس الجالية العربية، مازن دعدوش، مهندس كمبيوتر جاء إلى مالطا قبل 30 عامًا، "مالطا هي الدولة الوحيدة ياللي عطيتنا فيزا، جيت لهون بالصدفة، وبلشت من الصفر، اشتغلت بالبناء والمطاعم والفنادق".

لم يكن يعلم كغيره تحديدًا موقع منفى سعد زغلول، ثم لوح لي باحتمال محبط، قائلا: "في أماكن كتير اتهدت واتعمرت.. يمكن ما بتلاقيه، مثل سجن الباستيل في فرنسا.. هده الفرنسيون لأنه رمز للظلم والقمع"، لكنه قال لي إن هناك قلعة أخرى في "بيرجو"، يفوتني الكثير إن لم أزرها.

مرسى..

كانت دقات الساعة أشارت إلى العاشرة مساءً، حينما اصطحبني رئيس الجالية العربية إلى "بيرجو"، في الطريق مررنا بعدة محطات، أولها مرسى، حيث الـ "CENTER" مأوى طالبي اللجوء الأفارقة بمالطا، مبنى أبيض كبير يشبه المدرسة، يتناثر حوله أصحاب البشرة السمراء، لكننا لم نتمكن من دخوله أو التحدث معهم، بسبب إغلاق أبوابه عليهم ليلًا.

لا ينزل إلى هذا الـ "CENTER" اللاجئون السوريون، يتراوح عددهم دائمًا بين الـ 1500 والـ2000 لاجئ، أغلبهم يعتبرون مالطا نقطة عبور مؤقتة إلى أوروبا، وفقًا لمازن.

**
أصبحنا والشمس زاهية، والسماء صافية، والجو هادئ..

وقد نمت الليلة أحسن من كل ليلة سابقة، والأفكار المحزنة أخذت تزول وتتبدل بالأفكار المسلية.

والسبب في ذلك - على ما أشعر - أن المظاهرات البريئة التي حدثت عقب قيامنا غضبًا لإبعادنا، وطلبًا لإرجاعنا، قد وجدنا فيها شيئًا كبيرًا من المكافأة والترضية.

**
باولا..

لا يرتفع الأذان في مالطا، حتى من مسجد "باولا" الذي كان هو محطتنا التالية، بناه العقيد معمر القذافي أواخر تسعينيات القرن الماضي، وإلى جواره حديقة كبيرة مغلقة منذ سنوات تدعى "حديقة القذافي".

الجالية الليبية هي كبرى الجاليات العربية في مالطا، الإحصائيات الحكومية في مالطا تقدرها بـ20 ألف ليبي، ليسوا لاجئين، ولكنهم مقيمون في مالطا منذ زمن بعيد، ولديهم الجنسية المالطية، يقول مازن ضاحكًا: "كان القذافي لديه أمل أن يتزوج الليبيون من المالطيين ويولد جيل ليبي جديد يحكم مالطا".

**
8 إبريل 1919

تم اليوم الشهر من تاريخ القبض علينا، وقد حضر بناء على إلحاحنا أمس "المزين" يصحبه أحد العساكر؛ ليحضر أثناء الحلاقة، ويمنع الكلام بيننا.

والمزين أسير ألماني، أتي به من كامب آخر، فقص لي شعري الذي كان طويلًا، ويؤلمني طوله، ثم قص شعر إسماعيل صدقي.
**
بيرجو..

وصلنا أخيرًا إلى بيرجو، تلك العاصمة القديمة لمالطا التي تقع على ساحلها الجنوبي شهدت العديد من المعارك الضارية على مر التاريخ.. "هاي فسحتي المفضلة أنا وأولادي"، يقول مازن، على اليمين كان ثمة ميناء طبيعي ترسو عليه يخوت فارهة، وعلى اليسار ممشى طويل من البيوت القديمة والمطاعم السياحية، أما نهاية الطريق كان عبارة عن سلسلة من المدافع القديمة، وقلعة "سانت أنجيلو".

صعدنا إلى القلعة عبر ممرات وأدراج دقيقة ومظلمة، حتى وصلنا إلى القمة، كانت تكشف البحر كله، ومرسى اليخوت من جميع ممراتها المكشوفة، تجاورها أيضًا كنيسة كبيرة، لكن لم تبد أي غرف مغلقة توحي بوجود سجن قديم بداخلها.

نتجاوز القلعة من مخرج خلفي، ثم نمر بممرات ضيقة للغاية حتى نصل إلى حارات "بيرجو".. هناك أطلق "مازن" زفرة حنين وقال: "هون عم حس إني بدمشق القديمة".

**
11 إبريل 1919

أمس بعد العشاء، في نحو الساعة الثامنة، ونحن حول مائدة اللعب، إذا بمحمد إبراهيم دخل علينا، وفي يده تلغراف من روتر، يقول فيه إن الجنرال اللنبي أعلن بأن السفر إلى خارج القطر صار مباحًا لكل المصريين!

كدنا نطير من الفرح لهذا النبأ السار.

جاءت الساعة العاشرة - موعد نومنا - فذهبت لقضاء الحاجة، وسمعت صوت محمد محمود باشا عاليًا جدًا، تغلبه رنة الباكي فرحًا، وقال: "إنا لم نقرأ بقية التلغراف! إنه يشمل على خبر أهم، وهو الإذن بسفرنا أيضًا! فتعانقنا، وقبل بعضنا بعضًا أمام بيت الأدب!
**
فاليتا..

استند عازف خمسيني على أحد الحوائط، يدوزن "أي يضبط" أوتار جيتاره الكهربائي، يطلب منه المارة التصوير، فيشير إلى ثيابه القديمة والأنيقة في الوقت ذاته، وشعره الأملس غير المهندم، ويعتذر: "لست فوتوجونيك اليوم"، ويعود بنظره إلى أوتار جيتاره من جديد.

شوارع فاليتا لا تنام، تمتلئ بالملاهي الليلية المفتوحة ونوادي الورق، يتراقص سائحوها على أنوار النافورة الكبيرة في مدخلها، ونغمات الكلارينيت والجيتار على جوانبها، يلتقطون الصور الفوتوغرافية مع 320 نصبًا تذكاريًا مشيدًا بها، وعشرات الكنائس والقصور التي تعود إلى عصر الباروك، والبيوت الأوروبية ذات الشرفات الخشبية القديمة، التي تكافئ الحكومة المالطية من يحتفظ بها، وفقًا لمازن.


اليوم الخامس..

لم تكن العودة إلى مصر هي المحطة الأخيرة، كان الجيولوجي الألماني جوهان فريدريش برايتهاوبت، رسم خريطة لمالطا عام 1632، ظهر فيها اسم "بولفارستا".. بمزيد من البحث حصلت على نسخة واضحة منها.

وبمقارنة موقع "بولفارستا" بالخرائط الحديثة، نجدها قريبة جدًا من مطار لوقا الدولي، إلا أنها ما زال لا يوجد لها أي أثر.

حصلت أيضًا على صور قديمة توضح الدمار الذي حل بمالطا بعد الحرب العالمية الثانية.

تقول أستاذة التاريخ الحديث، لطيفة سالم، " ربما كانت قلعة قديمة وانهارت، وربما انهارت بفعل الحرب، مالطا كانت دائمًا في مرمى الحروب.. لعل ليس لها أي وجود الآن.. إذًا ليس أمامنا سوى أن نقول ربما ولعل.."

تستأنف الدكتورة آمال حامد زيان، المتخصصة في تاريخ أوروبا في العصور الوسطى "القلاع ليست إلا وسيلة للدفاع وصد الهجوم، وارد أن تكون هذه القلعة قد دكت في أي هجوم.. وارد جدًا أن تكون هذه القلعة والمدينة بأكملها قد انتهت".

بيت الأمة..

كل شيء بقي على حاله، حتى أوراق التقويم على الحائط توقفت عند الثالث والعشرين من أغسطس، يوم وفاة سعد زغلول، بوصية من سيدة القصر.. هناك كانت المحطة الأخيرة.

ذهبت لأقتفي أثر المنفى في متحف سعد زغلول - بيت الأمة.

"إحنا منعرفش حاجة عن المنفى غير مالطا وسيشل"، يتفق حامد السيد وسوزان فاروق، أمينا المتحف.. ثم تستأنف سوزان: "مفيش عندنا غير صورتين يقال إنهما من أيام المنفى.. لكن منعرفش ده صح ولا لأ، ومنعرفش إذا كانوا في مالطا ولا سيشل؟".

تسمرت أمام الصورتين، الأكيد أن من كان مع سعد زغلول في مالطا من الوفد هم محمد محمود باشا واسماعيل صدقي باشا، لكن تلك الصورتان جمعته بأعضاء آخرين.

كدت أمد فصول الرحلة إلى مقابلة أحد ذويه، إذ ربما أحفاده، لكن "مدحت" قطع الخيط قبل أن يبدأ، "سعد وصفية مكنش عندهم أولاد.. اتبنوا رتيبة بنت أخت سعد، وخلفت مصطفى وعلي أمين عاشوا مع سعد 13 سنة في نفس البيت".

لم تترك صفية زغلول مذكرات، بينما تركت بيتًا ومتحفًا وضريحًا، يوثق السيرة.

لم يكن لدى مصطفى أمين تفاصيل أكثر مما رواه سعد في مذكراته عن "قلعة بولفارستا"، لكن كان لديه رسائل سعد السرية مع الجناح الميداني للثورة عبدالرحمن فهمي، وثقها في كتاب تحت عنوان "الكتاب الممنوع.. أسرار ثورة 1919".

ولم يكن لدينا أي شواهد أخرى حول موقع قلعة بولفارستا سوى احتمالات، ربما دكتها الحرب، وربنا تغير اسمها، وربما تبدلت ملامحها كما تبدلت ملامح مالطا على مر العثور..

إلى أن وصلتني رسالة!

(الجزء الثاني)

رسائل من المنفى

أنا أعلم عن سعد زغلول، وأجري بعض الأبحاث حول الأمر برمته.

إذا جئت إلى مالطا مرة أخرى، فالرجاء إخباري، حتى أتمكن من اصطحابك إلى الموقع، وعرضه عليك بشكل دقيق.

أطيب الأمنيات
بروفيسور جون

31 يوليو 2019

رسالة إلكترونية أحيت القصة من جديد..

كانت من البروفيسور جون تشيروب، أخبرني فيها أن بولفارستا ليست قلعة، بينما هي قبو تخزين بارود بأحد حصون مالطا، دون ذكر المزيد من التفاصيل.
وإذ بي أرد عليه بسيل من الأسئلة: "أين هو الحصن، وما اسمه وكيف يستخدم الآن، وهل لديك صور له، أو شواهد تفيد بأن سعد زغلول ورفاقه كانوا هناك؟".

طلبت منه تحديد موعد مقابلة إلكترونية، لمعرفة المزيد حول القصة.

وعدني بالاستجابة، ثم اختفى.

جاءت رسالة البروفيسور جون، نتيجة لمراسلتي لجميع أساتذة قسم التاريخ بجامعة مالطا، في السابق، والذين بدأوا يردون واحدًا تلو الآخر، بالنفي تارة، وبالمعرفة غير الموثقة تارة أخرى.

كان من بينهم الدكتور سيمون مرسيكو، الذي كتب لي...

** رسالة **

إنه يقع في كوسبيكو، والآن، تحول إلى مدرسة عامة.

معروفة الآن بمدرسة "سانت مارجريت" فيردالا الثانوية.

تحياتي
الدكتور سيمون مرسيكو
يوليو 2019

بوابة فيردالا

بدأت قصة مدرسة فيردالا الثانوية منذ زمن بعيد، تحديدًا في ديسمبر 1638، حيث بداية تشييد خطوط مارجريتا الدفاعية، استغرق بناؤها 98 عامًا، وكانت فيردالا هي أقدم بوابة لها.

في عام 1853، وبعد أن أصبحت مالطا مستعمرة بريطانية، قرر البريطانيون بناء ثكنات فيردالا، وقلعة ومستودعات، ومخازن مياه، ومعتقل سانت كلايمت، الذي بنيت على أرضه المدرسة.

لم يقدم الدكتور سيمون أي شواهد تؤكد قضاء سعد زغلول فترة النفي داخل المدرسة - معتقل سانت كلايمت سابقًا - فكان علي مراسلة إدارة المدرسة للتحقق من الأمر.

6 أغسطس 2019

كان هذا تاريخ أول رسالة وصلتني من الأستاذ جوزيف إلول، مدير مدرسة سانت مارجريت، فيردالا الثانوية..

** رسالة **

لسوء الحظ لم يسبق لي أن واجهت اسم سعد زغلول خلال فترة ولايتي في المدرسة حتى الآن. أنا لست خبيراً في التاريخ والأرشيف الصغير الوحيد الذي لدينا، يعود إلى الخمسينيات، عندما كان المبنى بمثابة مدرسة تابعة للبحرية الملكية.

ومع ذلك، إذا حاولتِ التواصل مع الأرشيف الوطني في مالطا، فربما يمكنه المساعدة. فلديه سجلات تعود إلى زمن الحرب العالمية الأولى عندما كانت مدرستنا بمثابة معسكر لأسرى الحرب.

أتمنى أن يساعدك هذا.

أطيب التحيات
جوزيف إلول
مدير المدرسة

جاءت تلك الرسالة كبداية خيط جديد، إلى جانب الخيوط السابقة التي لم تدرك نهايتها بعد..

16 أغسطس 2019

راسلت الأرشيف الوطني على الفور، وجاءني الرد بعد 10 أيام، في منتصف أغسطس..

** رسالة**

بالإشارة إلى بريدكم الإلكتروني، يرجى العلم بأن مصطلح "بولفارستا" أطلق على مستودعات البارود.

يمكنكم العثور على معلومات تتعلق بنفي الزعيم المصري سعد زغلول في مالطا، ضمن ملفات مكتبة سكرتير مجلس الوزراء، والبريد الحكومي.

إذا لم تتمكنوا من زيارة المكتبة، يمكننا القيام بالبحث نيابة عنك، مقابل 18 يورو لكل ساعة.

مع العلم أن نتائج البحث ليست مضمونة..

تحياتي
ستيفاني شمبري
مساعد بالأرشيف الوطني

**

لم أتحمس لذلك العرض، قررت أن أراسل مكتب سكرتير مجلس الوزراء بنفسي، وقد كان.

19 أغسطس 2019

في البداية، وصلني رد مقتضب..

** رسالة **

لقد نصحتني سفارة جمهورية مصر العربية في مالطا بالاتصال بالبروفيسور ريموند مانجيون، المؤرخ في كلية الحقوق بجامعة مالطا، والذي سيكون قادرًا على تقديم النصح بشأن استفسارك.

أتمنى أن يساعدك هذا.

لا تتردد في الاتصال مرة أخرى إذا واجهت أي صعوبات.


مع تحياتي،
فيليكس أتارد
مسؤول المعلومات بمكتب رئيس مجلس الوزراء

**
23 أغسطس 2019

لم يرد البروفيسور ريموند مانجيون على رسالتي حتى الآن، لكن قسم الصور، بالأرشيف الوطني عاد ليراسلني مرة أخرى، بطلب من مجلس الوزراء..

** رسالة**

يشير اسم "بولفارستا" حرفيًا إلى "مستودع البارود". كان هناك العديد منها متناثرًة في المدن.

خلال بحثنا لتلبية استفسارك، علمنا أن هناك "بولفارستا" تقع في عاصمتنا فاليتا، في الوقت الحاضر هي البنك المركزي لمالطا.

كان هناك 'Polverista' أخرى تقع في كوسبيكو ومدينة، هل ذكر أي مدينة / بلدة / منطقة حيث تم احتجازه؟

فيما يتعلق بالزعيم المصري الراحل سعد زغلول، يؤسفني أن أبلغكم أنه لا، لم نعرف عنه من قبل.

 

مع تحياتي
لورانس أتارد جليفاو
مسؤول قسم الصور بالأرشيف الوطني


وقتها، تذكرت وصف سعد زغلول للمبنى المكون من ثلاثة طوابق على هيئة قشلاق، والموقع من حوله حينما سمح له بالتنزه.

**
خرجنا للنزهة أمس في عربات، ولكن مناظر الجهة التي كنا نتنزه فيها ظهرت لنا بمظهر موحش!

وخيلت لنا، كثرة ما بها من الأحجار المسورة بها الغيطان، وما يشتملها من المباني، أنها كالغابة.

فعزمنا ألا نعود مرة أخرى إليها، وفضلنا البقاء في مساكننا على التنزه فيها مرة أخرى.
**
عاودت الرد على لورانس - مسؤول الصور بالأرشيف الوطني- بذلك الوصف، فأجابني قائلا "إن بولفارستا التي تقع في كوسبيكو قريبة من البحر".

26 أغسطس 2019

بعد قرابة الشهر من رسالته الأولى، وصلتني رسالة من البروفيسور جون تشيروب أستاذ جامعة مالطا من جديد.

** رسالة **

يرجى الاطلاع على تلك المعلومات عن سعد زغلول في مالطا - حسب طلبك.

يشكل هذا بعض النقاط البارزة في بحثي الذي لا يزال جارياً ... وربما يستمر في مصر!

أطيب الأمنيات
بروفيسور جون

**

قبل مائة عام من الآن، وفي الوقت الذي اندلعت فيه ثورة 1919 في مصر بعد نفي سعد زغلول، اندلعت انتفاضة "سيت جوجينو" الذي لعب فيها أتباع الزعيم المالطي "مانويل ديميش" المنفيون في مصر دورًا قويًا، كان هو أيضًا منفيًا في مصر، وانتقل بين سجون ومعسكرات الاعتقال المختلفة، من بينها مستشفى الأمراض العقلية، في ظروف إنسانية قاسية، وفي الوقت الذي نجحت فيه المطالب بإنهاء نفي سعد زغلول، وعودته إلى مصر، مات ديميش في منفاه بمفرده، وتحول إلى بطل قومي.

الأمر الذي أثار اهتمام البروفيسور جون، وجعله يهتم بأمر سعد زغلول، ويخصص له جزءًا كبيرًا من بحثه حول الأحزاب والحركات القومية المناهضة للاستعمار البريطاني في إقليم البحر المتوسط.

أثناء الحرب العالمية الأولى، تحولت مالطا - المستعمرة البريطانية - إلى حصن استراتيجي، وأصبحت الجزيرة الصغيرة سجنًا كبيرًا مخصصًا لكل من جاهر بعدائه لبريطانيا العظمى، ومنفى للمبعدين عن بلادهم.

وفي أغسطس 1914، صدرت أوامر بالقبض على جميع الأجانب - بما في ذلك أطقم السفن التي تم ضبطها - واحتجازهم، تسلمت مالطا 1651 منهم في نوفمبر 1914، من بينهم سياسيون ومثقفون.. شخصيات مقلقة معادية لبريطانيا.

كان البسطاء من المعتقلين يتمركزون في مخيمات في حصني "فيردالا" و"سلفاتورا"، أما "بولفارستا" والتي كانت في البداية مستودعًا للبارود يجاور ثكنات الجنود البريطانيين.

كان من المخطط أن تتحول إلى معتقل للسجينات والأطفال، ومع تزايد عدد الأسرى من الجنود، والشخصيات البارزة من الأجانب، انحرف ذلك الهدف.

تحولت بولفارستا إلى معسكر اعتقال كامل، يضم كبار الأسرى، مساحات ضيقة جدًا، غرف صغيرة تتسلل إليها خيوط الشمس الرفيعة من بين قضبان معدنية تدعى شبابيك، ومساحة أكثر ضيقًا للترفيه والتريض.

باردة جدًا في الشتاء، وحارة للغاية في شهور فصل الصيف، تحيطها الأسوار والأسلاك الشائكة، ويلتف حولها المدافع والجنود من كل اتجاه.. الجميع يخضع لرقابة صارمة.. هكذا تحكي مخطوطات الأسرى القدامى، التي بقيت بعد قرن من الزمن.

الآن "بولفارستا" جزء من حصون "كوتونيرا"، أو مارجريتا سابقًا، التي تقع في كوسبيكو، وهي جزء من التراث التاريخي الاستعماري في مالطا، وتم إغلاقها بشكل نهائي في عام 1920.. يقول الدكتور جون.

كما حصل على صور لـ"بولفارستا" وسعد زغلول في مالطا، من مجموعة "Toni Camilleri" المملوكة للأرشيف الوطني في مالطا.

29 أغسطس 2019

ظننت أنني لن أستطيع الوصول لأكثر من ذلك، الخيوط المتشابكة بدأت في تفكيك يتطابق مع ما رواه سعد زغلول في مذكراته، لكن مصدرًا واحدًا غالبًا لا يكفي..

فاجأني لورانس أتارد مسؤول قسم الصور بالأرشيف الوطني في مالطا، برسالة تؤكد كل تلك المعلومات..

** رسالة **

لقد قدمت بعض الاستفسارات حول "بولفارستا" التي في كوسبيكو، ويبدو أنها الموقع الصحيح؛ لأنها تتكون من ثلاثة طوابق.

كانت تستخدم دائمًا من قبل الجيش البريطاني خلال القرن الماضي، فغالبًا تم إسكانه هنا.. في "بولفارستا" كوسبيكو.

بالمقارنة مع "بولفارستا" في مواقع أخرى.. تتكون في فوتوريسا من طابقين، أما في فاليتا فلم تستخدم كمخيمات أو خلايا للأسرى.

سأحاول الاتصال بالمجلس المحلي في كوسبيكو لمحاولة الحصول على مزيد من المعلومات حول هذا المبنى بالتحديد.

وأعود إليك لاحقًا.

مع تحياتي،
لورانس أتارد جليفاو
مسؤول الصور والمحفوظات

وفي اليوم التالي، فاجأني جامبين كينيث، مسؤول الهيئة الوطنية للمتاحف والتراث في مالطا - ولم أكن قد راسلته من قبل - يؤكد لي المعلومات السابقة أيضًا.

7 سبتمبر 2019

وصلتني رسالة كادت تغير مجرى القصة..

كانت من السيدة ريتا باتيستا، مدرسة الجغرافيا المتقاعدة ومسؤولة الأرشيف السابقة، بمدرسة "سانت مارجريت" فيردالا الثانوية، بعد أن طلب منها مساعد مدير المدرسة السيد جو سكورتينو، إجراء أبحاثٍ حول سعد زغلول، والمعلومات التي طلبتها سابقًا.

** رسالة **

فيما يتعلق بالزعيم المصري سعد زغلول المنفي في مالطا عام 1919. وادعى في مذكراته أنها "بولفارستا" اتصلت بأصدقائي في المدرسة البحرية الملكية ونفذت القليل من العمل البحثي.

وجدت أنه في بولفارستا تم احتجاز النساء والأطفال. ومع ذلك كان هناك سجناء مصريون في فيردالا في معسكر سانت كلايمت - ملعب كرة القدم الخاص بنا.

ووجدت صورة زغلول باشا إلى جانب محمد محمود وإسماعيل صدقي ومحمد الباسل، هناك، في الصفحة 60 من ألبوم سالتر - ووجدت توقيعاتهم في الصفحات 162 و163ـ في الألبوم نفسه.

تحياتي
ريتا ديباتيستا

** صور سعد زغلول من ألبوم سالتر والتوقيعات**

بدأت تدور الأفكار في رأسي، عدت أطلب من البروفيسور جون من جديد ما يؤكد معلوماته، لكن حل اللغز كان عند سعد نفسه.

**
12 إبريل 1919

زرنا المصريين الذين في الكامبات الأخرى، فاستقبلونا أحسن استقبال.

وحضر الضابط، وبلغنا بأنه: ورد تلغراف من مصر لسفركم إلى لوندرة، مع ثمانية عشر مصريًا معكم، وزاد عليهم دوماني، وبدر وويصا واصف والأفوكاتو عزيز منسي.

وأن الباخرة قامت من بورسعيد أمس وتصل هنا يوم الاثنين صباحًا.
**

كان التاريخ نفسه هو المدون على صور سعد زغلول في "سانت كلايمت" الموثقة في ألبوم سالتر، وكان سعد زغلول في زيارة إلى الأسرى المصريين البسطاء هناك قبل المغادرة، بحسب ما جاء في مذكراته.

25 سبتمبر 2019

أبت القصة أن تنتهي..

سيدة تدعى مارلين بيرينجر، تحادثني على حسابي الشخصي على "فيسبوك" بعد أن علمت عن رحلة بحثي عن مكان نفي سعد زغلول في مالطا.

كانت هي ابنة جورج سالتر، الجندي الإنجليزي الذي كان مسؤولًا عن إدارة حسابات الأسرى في معتقلات الحرب العالمية الأولى بمالطا، والذي جمع صورتهم وتوقيعاتهم، وحولها الأرشيف الوطني بمالطا إلى مرجع تاريخي، عام 2014، في مئوية الحرب العالمية الأولى.

جمع ألبوم سالتر، شواهد وجود سعد زغلول في مالطا، وصلاة حمد الباسل - خادمه - بالمسلمين في بولفارستا.

كان يؤمن سالتر أنه يعيش بفترة استثنائية من التاريخ، وأراد أن يتذكرها في الأوقات المقبلة، فحرصت "مارلين"، التي تعيش في كندا على رواية قصته.

"بدأت قصة حب أبي وأمي داخل معسكرات أسرى الحرب العالمية الأولى، ساعدته في مهامه نحو المسجونين، وشهدت توثيقه لكل ما كان يدور"

2 ديسمبر 2019

وفي مطلع ديسمبر نجحت في ترتيب زيارة أخرى إلى مالطا، اصطحبني خلالها البروفيسور جون إلى بولفارستا - موقع نفي سعد زغلول ورفاقه، واصطحبتني ريتا في زيارة إلى مدرسة سانت مارجريت الثانوية بفيردالا - معتقل سانت كلايمت سابقًا.

التقيت هناك، بخلود - طالبة مصرية الجنسية - لم تكن تعلم مثل غيرها بنفي سعد زغلول منذ زمن بعيد، بقربها.

وأخيرًا، زرت الأرشيف الوطني بمالطا.. طالعت ألبوم سالتر، الذي وثقت صفحاته، كل ما توصلت إليه في المراسلات السابقة، بولفارستا، زيارة سعد زغلول لسانت كلايمت، توقيعه وتوقيعات من كانوا معه بخط أيديهم.. خاتمة مناسبة لقصة استمرت قرابة نصف العام انتهت بخط سطر جديد في التاريخ، عبارة ولو صغيرة مكملة لسيرة رجل نسعى بعد مائة عام من ثورة قادها، لاقتفاء أثره والعثور على منفاه.

** فيديو الزيارة **

https://youtu.be/FxZ5erTbZ-A