Show Menu
True Story Award 2023

الفخ البيلاروسي.. المهاجرون العرب في لعبة الحدود الأوروبية

خلال بضعة أشهر تمكنت بيلاروسيا من حشد عشرات آلاف الراغبين في الهجرة من الشرق الأوسط إلى حدودها مع الاتحاد الأوروبي، فيما بدا أنها عملية ممنهجة.

الجزء الاول:
لم أكن أعرف حين التقيت "أمجد" الشاب العراقي الأربعيني في أحد مراكز الشرطة في بروكسل وطلب مني بلطف ترجمة وثيقة له أنه واحد من مهربي المهاجرين، ولم يكن بدوره يعرف أنني صحفي.

قادتني هذه الصدفة لاحقا إلى معرفة الكثير من الخيوط حول عمليات تهريب اللاجئين من بيلاروسيا نحو دول الاتحاد الأوروبي وما يحصل على تلك الحدود وعن طرق التهريب المختلفة.

"هل تود إحضاره إلى ألمانيا أم بلجيكا؟" هكذا خيرني "أمجد" خلال مكالمة هاتفية أجريتها معه أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2021 حين تظاهرت بأن قريبا لي موجود بتركيا ويبحث عن سبيل للوصول إلى إحدى دول الاتحاد الأوروبي.
أكد "أمجد" -الذي عرفت لاحقا أنه أحد أعوان "أبو العبد العراقي" -وهو أحد أشهر المهربين على وسائل التواصل الاجتماعي- بنبرة واثقة "ما إن يصل قريبك إلى بيلاروسيا حتى يحضره رجالنا بسياراتنا إلى بلجيكا أو ألمانيا، له أن يحدد وجهته النهائية".
بهذه الطريقة اختار آلاف المهاجرين من بلدان الشرق الأوسط وآسيا وضع مصيرهم في أيدي المهربين، فقد تم استدراجهم إلى بيلاروسيا عبر رحلات جوية منظمة ومكثفة وتسهيلات غير مسبوقة في الحصول على التأشيرات أو بدونها لمواطني بعض الدول، وعند وصولهم إلى مينسك يتم تسهيل ذهابهم إلى الحدود للعبور إلى بولندا وليتوانيا ولاتفيا ثم ألمانيا وبلجيكا.

ينشط "أبو العبد" وغيره من المهربين على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مكثف، عدنا إلى حسابات فيسبوك فوجدنا العديد من الصفحات والمجموعات التي تروج ببساطة للهجرة غير النظامية عبر مهربي البشر أو وكلاء لهم، مثل (الهجرة من بيلاروسيا إلى أوروبا – تأشيرة بيلاروسيا وذهاب إلى ألمانيا- غروب بيلاروسيا بولندا.. الهجرة لأوروبا).

ويعلن هؤلاء عن إمكانية توصيل المهاجرين إلى ألمانيا من خلال إرسال نقاط تحميل لهم، وبعد دفع المبالغ المطلوبة لدى ما يسمونها مكاتب "التشييك" (مكاتب إيداع الأموال المتفق عليها مع المهرب).

خلال الأشهر الثلاثة من ديسمبر/كانون الأول وحتى أواخر فبراير/شباط تواصل معد التحقيق عبر واتساب ثم هاتفيا مع عدة مهربين يظهر من خلال صفحاتهم أنهم الأكثر نشاطا، تظاهر أنه موجود في مينسك ويرغب في العبور إلى بلجيكا، فأبدى الجميع استعدادهم لتهريبه ومن معه، لكن إلى ألمانيا عبر بولندا في مرحلة أولى.

حتى أواخر فبراير/شباط اتضح لنا من خلال تواصلنا مع المهربين أثناء التحقيق أن الطريق البيلاروسي ما زال سالكا إلى ألمانيا، وتراوحت عروض الأسعار بين "أبو جبل" و"علاء الدين العراقي" و" أبو محمد القلموني" وأبو الوليد" وغيرهم بين 2500 يورو (2800 دولار) و6500 يورو (7370 دولارا)، مع الاختلاف في بعض الامتيازات، من أهمها توفير دليل في بولندا أو ما يعرف في معجم المهربين والمهاجرين بـ"ريبري".

تواصل معد التحقيق أيضا مع مهاجرين عبروا من طريق بيلاروسيا إلى الاتحاد الأوروبي وآخرين لم ينجحوا وعادوا إلى بلدانهم أو بقوا في بيلاروسيا ينتظرون اللحظة الحاسمة للعبور.

ضمن هذا التحقيق تكشف الشهادات المؤثرة -التي توثق قصصا إنسانية مأساوية على الحدود- والوثائق وتحليل بيانات خطوط الطيران وعدد الرحلات وحسابات وسائل التواصل كيف نظمت بيلاروسيا تدفقا هائلا للمهاجرين إلى حدودها مع الاتحاد الأوروبي خلال أشهر معدودة، وكيف أصبحت الهجرة السرية صناعة منظمة تديرها أطراف بطرق ملتوية وحيل مبتكرة اخترقت الإجراءات الأمنية الأوروبية.

لعبة الأسلاك الشائكة
اختار آلاف المهاجرين من بلدان الشرق الأوسط وآسيا وضع مصيرهم في أيدي المهربين، إذ تم استدراجهم إلى بيلاروسيا عبر رحلات جوية منظمة ومكثفة وتسهيلات.

اختار آلاف المهاجرين من بلدان الشرق الأوسط وآسيا وضع مصيرهم في أيدي المهربين، إذ تم استدراجهم إلى بيلاروسيا عبر رحلات جوية منظمة ومكثفة وتسهيلات غير مسبوقة في الحصول على التأشيرات (وكالة الأناضول)
تمتد الحدود البيلاروسية على 5 دول، 3 منها تتبع الاتحاد الأوروبي وهي لاتفيا (170 كيلومترا) وليتوانيا (639 كيلومترا) وبولندا (417 كيلومترا)، إضافة إلى روسيا (1311 كيلومترا) وأوكرانيا (1110 كيلومترات)، ويتوجه معظم المهاجرين إلى الحدود البولندية باعتبارها منفذا أسهل إلى ألمانيا كمقصد رئيسي، ثم بدرجة أقل ليتوانيا ثم لاتفيا.

ووفقا للأرقام الأولية التي جمعتها الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل "فرونتكس" (Frontex) ونشرتها أواخر يناير/كانون الثاني 2022، كان العدد الإجمالي للعابرين بشكل غير قانوني لحدود الاتحاد الأوروبي سنة 2021 نحو 200 ألف، وهو أعلى رقم يسجل منذ عام 2017، ويمثل زيادة بنسبة 36% مقارنة بعام 2019 وبنسبة 57% مقارنة بعام 2020.

وكان أحد عوامل هذه الزيادة الوضع على الحدود مع بيلاروسيا، واستخدام الهجرة في عملية "مختلطة تستهدف الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي" حسب تقرير فرونتكس، وكان السوريون هم الجنسية الأكثر عبورا بشكل غير نظامي، يليهم التونسيون والمغاربة ثم الجزائريون (عبر طريق المتوسط) والأفغان.

عدد محاولات الهجرة غير النظامية على الحدود الأوروبية عام 2021 (الجزيرة)
على الحدود البرية الشرقية (بيلاروسيا) تم الكشف عن نحو 8 آلاف حالة عبور غير قانونية عام 2021، بزيادة أكثر من 10 أضعاف مقارنة بعام 2020، إذ بلغت الأرقام ذروتها في النصف الثاني من العام 2021.
وتركز ضغط الهجرة أولا على الحدود الليتوانية، وتحول لاحقا إلى الحدود البولندية اللاتفية بدرجة أقل.
وحسب إحصاءات منشورة في موقع الحكومة الليتوانية، عبر من بيلاروسيا إلى ليتوانيا 4337 مهاجرا غير نظامي حتى تاريخ 8 فبراير/شباط 2022، ومثّل العراقيون النسبة الكبرى منهم (2858 مهاجرا)، والكونغوليون (203 مهاجرين)، والسوريون (179 مهاجرا)، والأفغان (101 مهاجر) ثم جنسيات أخرى، بينها يمنيون وجزائريون وتونسيون ومغاربة.


المهاجرون غير النظاميين الذين وصلوا إلى ليتوانيا حسب العمر والجنس (2021)
وعلى الخط البولندي، سجل حرس الحدود البولندي منذ بداية 2021 ما يقارب 40 ألف محاولة عبور غير قانوني للحدود مع بيلاروسيا.

وتظهر البيانات أنه كان هناك 1700 محاولة عبور غير قانونية في ديسمبر/كانون الأول 2021 مقابل 8900 محاولة في نوفمبر/تشرين الثاني.

وسجّل أكتوبر/تشرين الأول 17 ألفا و900 محاولة عبور، وهي الحصيلة الأعلى، مقابل 7700 في سبتمبر/أيلول، و3500 في أغسطس /آب.

ورغم تراجع عدد العابرين في بداية 2022 بفعل عوامل مختلفة، أهمها الشتاء القارس وقيود كورونا -خصوصا إيقاف الرحلات من بلدان الشرق الأوسط للعراقيين والسوريين واليمنيين- فإنه في يناير/كانون الثاني 2022 كانت هناك بالفعل أكثر من ألف محاولة عبور غير قانونية من بيلاروسيا إلى بولندا، معظمهم من العراقيين والسوريين حسب دائرة الحدود البولندية.

في عام 2021 سجلت السلطات الألمانية وصول أكثر من 11 ألف مهاجر وطالب لجوء إلى البلاد عبروا بشكل غير نظامي، معظمهم انطلاقا من بيلاروسيا عبر بولندا، وشكلت الحدود البولندية الألمانية النقطة الساخنة في مسار هذه الهجرة التي سلكها آلاف العرب، بينهم اليمني غمدان العولقي.

 


تطور أعداد المهاجرين غير النظاميين العابرين من بيلاروسيا إلى ليتوانيا (الجزيرة)

رحلات الطيران الرئيسية بين مدن الشرق الأوسط ومينسك بين أبريل/نيسان ونوفمبر/تشرين الثاني 2021 (الجزيرة)
الفخ البيلاروسي
"إنها حرب قذرة بين البولنديين وبيلاروسيا نحن سلاحها" يقول الشاب اليمني غمدان العولقي (27 عاما) الذي كان يختبئ وقت حديثنا معه أول مرة في إحدى الشقق السكنية في مينسك خوفا من الترحيل إلى سوريا أو اليمن بعد 4 تجارب فاشلة في العبور إلى بولندا وليتوانيا.

قضى غمدان 25 سنة لاجئا في سوريا منذ أن فر والده الضابط في الجيش إليها عام 1996، وما إن سمع بالطريق البيلاروسي وتسهيلات التأشيرة والسفر حتى أتم الإجراءات واتفق مسبقا مع مهرب يدعى "أبو جبل"، لتهريبه من بولندا إلى ألمانيا مقابل 2500 يورو (نحو 2860 دولارا)، وغادر من مطار دمشق الدولي عبر طيران "أجنحة الشام" إلى مينسك في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021.

بمجرد وصول غمدان ورفاق له إلى الحدود البيلاروسية البولندية وضعهم أحد أفراد حرس الحدود مع آخرين في شاحنة عسكرية وتحرك بهم إلى منطقة حدودية مع بولندا ورفع السلك الشائك وأمرهم بالعبور، وكان عليهم تجاوز النهر ثم الغابة مشيا لمسافة 4 كيلومترات مع ملابس مبتلة حتى نقطة التحميل، وهي مكان الالتقاء المتفق عليه مع المهرب وفق خدمة "جي بي إس" (GPS).

في تلك الأجواء القارسة البرودة أصيب غمدان بحمى شديدة ولم يستطع إكمال الرحلة، فمكث في الغابة يوما ونصف يوم حتى جاء 25 من المهاجرين العابرين بنفس الطريق فانضم إليهم، لكنهم لم ينجحوا في الوصول إلى مبتغاهم، إذ يقول "قبض علينا حرس الحدود البولندي رغم توسلاتنا ووضعنا في سيارة وعاد بنا إلى الحدود، وفتح السلك الشائك وأرغمنا على العبور إلى بيلاروسيا مجددا"، كانت هذه محاولة العبور الأولى الفاشلة لغمدان.

تشغيل الفيديو
مدة الفيديو 01 minutes 10 seconds
01:10
بعد العودة داخل بيلاروسيا وُضع الجميع في معسكر تابع لحرس الحدود البيلاروسي، وتُركوا دون طعام، وضُرب بقسوة كل من طلب العودة إلى مينسك كما يروي غمدان، وكان هناك العديد من السماسرة الذين يحومون حول المكان يستغلون تعب وإحباط العائدين ويطلبون ألفي دولار من كل راغب في الرجوع إلى مينسك.

في اليوم الثاني أجبر حرس الحدود البيلاروسي غمدان ومن معه على الاستيقاظ في الثانية صباحا، ووضعوا مرة أخرى في شاحنة توجهت بهم إلى نقطة حدودية أخرى، وفتح لهم السلك الشائك للعبور إلى بولندا.

"ظللت أمشي 4 أيام مع أسرتين عراقيتين داخل الغابات البولندية، لكن تم إلقاء القبض علينا قبل 1.5 كيلومتر من نقطة التحميل المفترضة"، ووضع الجميع في مخيم أقرب إلى السجن.

تم التحقيق مع غمدان أكثر من مرة، للاشتباه في كونه دليلا (ريبري) للعائلتين اللتين كان يتحرك معهما، ("الريبري" هو الشخص الذي يعرف الطرق وسط الغابات جيدا، ويستخدمه المهربون لإرشاد وقيادة المهاجرين إلى نقاط التحميل).

بعد ذلك اُقتيد غمدان مع عائلات -بينها أطفال- إلى الحدود البيلاروسية، وفتح حرس الحدود البولندي لهم السياج ليعودوا أدراجهم إلى بيلاروسيا، كانت هذه المحاولة الثانية.

مهاجرون غير نظاميين على الحدود البيلاروسية البولندية في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 (رويترز)
داخل بيلاروسيا تم اقتياد الجميع إلى معسكر حرس حدود، حيث تعرضوا للضرب وسلبت منهم أموالهم وهواتفهم، ثم وُضعوا ليلا في حافلات توجهت بهم هذه المرة إلى الحدود مع ليتوانيا، مع تهديد صارم بمعاقبة كل من يحاول التراجع.

كان غمدان هذه المرة شاهدا على واحدة من أكبر المآسي الإنسانية التي حدثت للمهاجرين، فبعد أن وفر البيلاروسيون قاربا مطاطيا لجمع من المهاجرين -وبينهم زوجان كرديان مع طفلهم ذي الأربعة أعوام- سقط الطفل في المياه شديدة البرودة ولم يتمكنوا من إنقاذه "إذا كانت أوروبا أو ألمانيا نفسها أمامنا في هذه اللحظة فلن نتحرك.. الموت له وقع".

ومع هول الفاجعة وصل حرس الحدود الليتواني ليعيدهم إلى بيلاروسيا، كانت هذه المحاولة الثالثة التي انتهت بمأساة.

في المرة الرابعة، أعطاهم حرس الحدود البيلاروسي قطاعة السلك الشائك وأمرهم بالعبور إلى بولندا، وهناك قوبلوا برش رذاذ الفلفل والماء والضرب من قبل من حرس الحدود البولندي، بعدها قرر غمدان العودة إلى مينسك، وتلقى ضربا مبرحا حين علم أفراد الحدود البيلاروسي بذلك.

"رأيت عائلات تبكي الدم على أولادها في هذا الطريق، هؤلاء تم خداعهم من قبل المهربين بأنهم سيمشون كيلومترات قليلة ليصلوا إلى الجنة المنشودة حيث الاستقرار والحياة السعيدة".

عندما تواصلنا مع غمدان مرة أخرى أخبرنا أنه تقدم إلى السلطات البيلاروسية بطلب لجوء، فقامت بتسجيل طلبه وإرساله إلى مركز للاجئين في مدينة "جومل" على الحدود البيلاروسية الأوكرانية.

يخاف غمدان من ترحيله إلى سوريا أو اليمن "في الوقت الحالي العودة إلى اليمن تعني قتلي، ولكنه قتل سريع أفضل من هذا الموت البطيء.. أرجع سوريا؟ أنا هارب من سوريا، أهل سوريا هربوا منها".

تواصلنا مع مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة فأفادت بأنها على علم بالتقارير حول الانتهاكات على الحدود ولكن لا يمكنها تأكيدها أو التحقق من المعلومات على اعتبار وجودها المحدود في بيلاروسيا وعدم إمكانية الوصول المنتظم غير المقيد إلى المناطق الحدودية، كما أشارت إلى تلقيها تقارير تفيد بأن الناس يواصلون محاولة عبور الحدود مع الاتحاد الأوروبي، خاصة بولندا.

نعيم المهربين وجحيم المهاجرين
استثمر المهربون تسهيل بيلاروسيا إجراءات السفر إليها لاستغلال الراغبين في الهجرة إلى بلدان الاتحاد الأوروبي من بلدان الشرق الأوسط.

ما إن سمحت بيلاروسيا لمواطني الشرق الأوسط القدوم إلى أراضيها من أجل السياحة بتسهيلات في إجراءات التأشيرة حتى أعلنت مكاتب السفر في العديد من الدول والعواصم العربية عن توفر برامج السفر السياحي إلى بيلاروسيا الذي وصل في بعض المكاتب إلى 3 آلاف دولار للفرد الواحد.

تبرر العديد من وكالات السفر في العديد من العواصم العربية عملها بأنها توفر التأشيرات السياحية لزبائنها بطريقة نظامية، وهي ليست مسؤولة عن نوايا هؤلاء وتوجههم بعد ذلك للهجرة غير النظامية عبر بيلاروسيا.

يمثل العراقيون النسبة الكبرى للمهاجرين العابرين أو الراغبين بالعبور عبر بيلاروسيا إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، ويقول وكيل وزارة الهجرة والمهجرين العراقية الدكتور كريم النوري إن "من حق المواطن الذي يمتلك جوازا السفر، لكننا لسنا مسؤولين عن العراقي الذي يستغل تأشيرة دخول بلد ما ليسلك طريق الهجرة غير الشرعية كما يحصل مع العراقيين في بيلاروسيا، حيث توجد مافيات تتغاضى عنها السلطات من أجل استخدام العراقيين كورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي".

أوقف العراق الرحلات المباشرة من بغداد إلى مينسك بعد التنسيق مع الاتحاد الأوروبي كبادرة حسن نوايا، كما أغلق القنصلية الفخرية لبيلاروسيا في بغداد وأربيل حتى لا يحصل العراقيون على تأشيرة دخول إلى بيلاروسيا، كما أعادت بغداد نحو 3500 مواطن عراقي -أغلبهم من إقليم كردستان- لم يتسن لهم العبور، ومروا بتجارب قاسية كتلك التي حصلت لحيدر كمال و"أم زمرد".

مآس على الحدود
أمام التهديد بالقتل الذي واجهه حيدر كمال (45 عاما) من عناصر نافذة في الحكومة العراقية لم يكن أمامه سوى باب بيلاروسيا مفتوحا، فتوجه رأسا إلى مكتب سياحة في بغداد يسمى "نبع الجود" السياحي الذي وفر دعوة سياحية له ولزوجته وأبنائه الثلاثة تشمل برنامجا سياحيا كاملا مقابل 7200 دولار ذهابا فقط، وغادر إلى مينسك في 9 سبتمبر/أيلول عبر طيران "فلاي دبي".

"في مينسك كان المهربون يأتون بأنفسهم إلى الفندق، وكنت أرى الكثير من المهاجرين يتعاملون معهم".

تواصل حيدر مع أحدهم ويحمل جنسية ليبية، وكان الاتفاق أن يأخذه وأسرته إلى الحدود البيلاروسية البولندية وأن يعطيه نقاط تحميل على الخريطة "جي بي إس" على بعد 3 كيلومترات داخل بولندا، لتأتي سيارة تابعة له تنقلهم إلى شقة في بولندا، ثم سيارة أخرى تنقلهم بعد يومين إلى ألمانيا مقابل 2500 يورو (نحو 2860 دولارا) للشخص الواحد.

لم يكن صعبا على حيدر وأسرته عبور الحدود البيلاروسية البولندية، فعناصر حرس الحدود أرشدوهم إلى الأماكن الخالية من نظرائهم البولنديين، فتحركوا داخل بولندا مع عائلة أخرى مشيا لنحو 3 كيلومترات في انتظار سيارة التحميل حتى حل الظلام، وفي هذه الأثناء كانت زوجة حيدر تشعر بالإرهاق وتشكو من آلام، فقرر الخروج من الغابة وتسليم نفسه إلى شخص مدني توقف بسيارته على أمل إبلاغ السلطات البولندية لإحضار الإسعاف ونقل زوجته إلى المستشفى.

حضر أفراد الجيش البولندي، لكنهم قاموا بإعادة حيدر وأسرته ومن معهم إلى الحدود البيلاروسية في منتصف الليل، ولم ينقلوا زوجته إلى المستشفى رغم التدهور الواضح لحالتها الصحية "ظللت أناشد حرس الحدود البولندي إسعاف زوجتي أثناء وجودنا في المنطقة الفاصلة بين البلدين دون جدوى، ازداد تدهور حالتها ثم توفيت بعدها بساعات فجرا على الحدود، حينها سقطت في نوبة من الصراخ".

بعدها رجع حيدر مشيا إلى الحدود البيلاروسية، واضعا جثة زوجته وأبنائه والأسرة العراقية المرافقة في مكان جانبي، ثم توجه إلى عناصر حرس الحدود البيلاروسي الذين رفضوا مساعدته ونقل جثة زوجته، وساوموه بقولهم "سوف نساعدك فقط عندما تقول إن البولنديين اعتدوا علينا بالضرب وقتلوا زوجتي".

رتب حرس الحدود البيلاروسي لإخراج فيلم يدين البولنديين في هذه الحادثة، وأجبر حيدر على تمثيله قائلا أمام الكاميرا إن حرس الحدود البولندي اعتدى عليهم، مما تسبب في وفاة زوجته "كنت مجبرا على ذلك لوجود أطفالي معي في الغابة مع جثة زوجتي، للأمانة لم يتعرض البولنديون إلينا بالضرب".

رجع حيدر إلى بيلاروسيا مع الجثة، وقامت القنوات البيلاروسية بتصوير ذلك والترويج لرواية تعرضهم للضرب من قبل البولنديين، وهو ما تسبب في اتهامات ومشاكل كثيرة مستمرة له في العراق -كما يقول- حين تصور أهل زوجته المتوفاة أنه قصّر في حمايتها من البولنديين.

بعد ذلك تم نقل حيدر وأطفاله إلى منطقة حدودية تسمى "غورودنا"، وهنا ازدادت المأساة، حيث تم وضعه في سجن ووضع الأطفال في حضانة، ثم بدؤوا في التحقيق معه حول عبور الحدود البيلاروسية ومقتل زوجته من قبل حرس الحدود البولندي، واستمرت التحقيقات على مدار أسبوع لساعات طويلة يوميا وفي أكثر من مركز شرطة.

"كان ذلك عذابا جسديا ونفسيا شديدا، في كل مركز شرطة أو زنزانة كان يطلب مني نزع ملابسي والتعرض لتفتيش مهين، كان ذلك احتقارا غير طبيعي للذات البشرية، لم يكن هناك شيء يسمى الإنسانية.. الإنسانية فقط للاستهلاك الإعلامي".

بعد انتهاء التحقيقات قررت السلطات البيلاروسية ترحيل حيدر مع أطفاله إلى العراق على متن الخطوط التركية بعد أخذ أمواله وهواتفه "لم أر أي دولة ترحّل شخصا على نفقته الخاصة، حتى رسوم التنقل بين مراكز الشرطة لإجراء التحقيقات معي كانوا يقتطعونها من أموالي، وكذلك أجرة السيارة التي أقلتني إلى المطار عند ترحيلي..".

بقيت قضية جثة زوجته معلقة لعدم وجود سفارة عراقية في مينسك، وبعد عناء استمر 12 يوما من وصوله إلى العراق توصل إلى شخص هناك أصدر له تفويض عبر السفارة العراقية في روسيا، ثم قام بشحن الجثة على نفقته الخاصة إلى بغداد، ويلخص حيدر تجربته القاسية هذه بالقول:

"لعبة السياسة بين بيلاروسيا والاتحاد الأوروبي هي من خدعتنا وتآمرت علينا ويتحمل البيلاروسيون مسؤولية خداعنا بنسبة 100%، كان حلمنا وهدفنا أن نؤمّن مستقبل أطفالنا، لكن هذا قدر الله معنا لا اعتراض عليه".

انتهاكات وتحرش جنسي
مثل آلاف العراقيين، حملت العراقية "أم زمرد" (29 عاما) آلامها وأحلامها وغادرت مع زوجها ورضيعتها من إسطنبول إلى مينسك بفيزا استخرجتها من مكتب بإسطنبول مقابل 1500 دولار للشخص الواحد.

لم يكن من الصعب الوصول إلى الحدود والدخول إلى بولندا بمساعدة حرس الحدود البيلاروسي، لكن إعادتهم من قبل البولنديين أغضبت حرس الحدود البيلاروسي فاعتدى أحدهم على زوجها بعقب بندقيته وهو يحمل الرضيعة، تقول "خفت على ابنتي فوقفت أمام زوجي لحمايته فانهال الجندي علي ضربا بغصن شجرة كان يحملها". حطم الجنود أيضا مستلزمات الرضيعة التي كان يحملها زوجها في حقيبة ظهر.

لم يكن الضرب وحده ما قام به الجنود البيلاروسيون، فقد كانت هناك عائلة أخرى مكونة من 5 أفراد تحاول العبور مع مع عائلة "أم زمرد"، بينهما بنتان إحداهما 16 عاما والأخرى 20 عاما تحرش بهما ضابط بيلاروسي بحجة تفتيشهن وهن يصرخن، في وقت أغمي فيه على الأب بعد نوبة سكري. لم تتحمل أم زمرد ذلك واندفعت لتخليص البنتين من الضابط الذي دفعها بعنف وكال لها الشتائم.

ظل الجميع في المنطقة عند السياج الفاصل تحت نظر البولنديين والبيلاروسيين مدة طويلة، وتحت التهديد بالقتل من قبل أحد الضباط البيلاروسيين طلبت "أم زمرد" من أحد الجنود مساعدتهم في العودة إلى مينسك، فاشترط الحصول على مبلغ قدره ألف دولار عن كل عائلة، خفّضه لاحقا بعد طول توسل له إلى 500 دولار، وفي الصباح اتصل الجندي بسيارة، وكان عليهم المشي مدة ساعة للوصول إليها ومن ثم الوصول إلى مينسك.

مينسك.. نقطة الانطلاق
عشرات آلاف المهاجرين العرب وصلوا إلى مينسك عام 2021 في طريقهم إلى بلدان الاتحاد الأوروبي

في تقرير موثق له، يشير موقع "الملف" البيلاروسي المعارض الذي يُدار من بريطانيا أن فتح الحدود للمهاجرين من الشرق الأوسط وآسيا كان مخططا له من قبل السلطات البيلاروسية، وقد أسهمت شركات السفر الحكومية البيلاروسية ووكالات أسفار بدور كبير في تنفيذه.

وثقت مجموعة الإنقاذ الموحد -منظمة تعنى بالمهاجرين واللاجئين مقرها ألمانيا وتعمل على الحدود مع بيلاروسيا- التدفق الكبير للمهاجرين من بيلاروسيا إلى حدود الاتحاد الأوروبي، ويؤكد مؤسسها إيهاب الراوي أن السلطات البيلاروسية ترفض السماح للمهاجرين بالعودة إلى مينسك أو إعطائهم المساعدة الطبية، ويشير إلى أن مهاجرين أخبروا المنظمة بأن حرس الحدود البيلاروسي يطلب منهم "العبور إلى بولندا أو الموت على الحدود".

منذ مارس/آذار وأبريل/نيسان عام 2021 كان أغلب الواصلين إلى بيلاروسيا من العراقيين، ومنذ سبتمبر/أيلول انضم السوريون بكثافة إلى قائمة المسافرين، حيث قامت شركة "أجنحة الشام" للطيران السورية في ذلك الوقت ببرمجة رحلات شبه يومية من دمشق إلى مينسك، كان الشاب السوري زيد إدريس (44 عاما) على متن إحداها.

بعد محاولتين فاشلتين في الهجرة بحرا عبر تركيا في شهر أغسطس/آب 2021 غيّر زيد وجهته صوب خط بيلاروسيا الذي كان قد ذاع صيته، فعاد إلى دمشق ليجد أن شركة "أجنحة الشام" توفر برنامج سفر متكامل إلى بيلاروسيا، يشمل التأشيرة ورحلة والطيران وإقامة فندقية لمدة 10 أيام مقابل 4 آلاف دولار.

تواصل زيد ورفاقه أولا مع مهرب عراقي يسمى "أبو راشد" وتم الاتفاق على 2500 يورو (نحو 2860 دولارا) لإيصالهم من بولندا إلى ألمانيا. تم "تشييك" (إيداع) المبلغ في مكتب تأمين "حفتارو" بإسطنبول الذي يحصل على عمولة بقيمة 100 يورو (نحو 112 دولارا).

بعد وصولهم إلى مينسك تحولوا مباشرة إلى الحدود، وساعدهم حرس الحدود البيلاروسي على العبور. كان عليهم الوصول إلى نقطة التحميل التي حددها "أبو راشد" في بولندا لكن تم إرجاعهم، فتعرضوا للضرب والإهانة من قبل حرس الحدود البيلاروسي، خصوصا عندما عبّروا عن رغبتهم في العودة إلى مينسك، خاطبهم الضابط البيلاروسي بحدّة:

"ممنوع العودة وإلا ستضربون بالنار. البولنديون هم من ضربوكم وليس نحن، يجب أن تخبروا الجميع بذلك. تعيشون أو تموتون هنا أو تذهبون إلى بولندا أنتم أحرار، لكن لا مجال للعودة".

وضعهم حرس الحدود البيلاروسي في شاحنة وتوجهوا إلى نقطة حدودية أخرى ثم عبروا إلى بولندا، حينئذ تواصلوا مع مهرب آخر سوري الجنسية يدعى "أبو الوليد" طلب منهم 2500 يورو (نحو 2860 دولارا) ليوصلهم إلى ألمانيا، اتصل زيد بصديق له طلب منه التواصل مع مكتب "حفتارو" في إسطنبول حيث أودعوا مبالغ التأمين وتغيير "التشييك" إلى اسم المهرب "أبو الوليد"، وتم ذلك مقابل 100 يورو إضافية (نحو 112 دولارا).

كانت السيارة التي نقلت زيد ورفاقه من غابات بولندا إلى ألمانيا تحمل لوحات سويدية يقودها سائق سوري من أصل فلسطيني، ويقول زيد "ذكر لنا السائق أنه يقود ألفي كيلومتر كل يومين، ويمكن أن يقوم برحلة يوميا حسب التكليف من المهرب، ولكل مهرب سيارات يتعامل معها لنقل زبائنه". وصل زيد لاحقا إلى بلجيكا، حيث يقيم في أحد مراكز اللجوء بانتظار تسوية أوضاعه.

شركات وكيانات ضالعة
في الثاني من ديسمبر/كانون الأول 2021 فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على أشخاص وكيانات زعم أنها متورطة في إحضار اللاجئين إلى مينسك للعبور إلى أوروبا.

إعلان على فيسبوك لإيصال المهاجرين من بيلاروسيا إلى ألمانيا (الجزيرة)
تشير التقارير إلى أن الزيادة في تدفق المهاجرين ارتبطت في البداية بعقوبات الاتحاد الأوروبي ضد نظام الرئيس ألكسندر لوكاشينكو بعد أزمة الهبوط الاضطراري لطائرة "ريان أير" (الخطوط الأيرلندية) في مينسك في 23 مايو/أيار 2021 جراء بلاغ كاذب بوجود قنبلة خططت له مينسك لاعتقال المعارض رومان بورتاسيفيتش.

وبتعقب تواتر رحلات المهاجرين نجد أن المهاجرين بدؤوا الوصول إلى الحدود مع الاتحاد الأوروبي قبل أسابيع من اختطاف الطائرة، لتتسارع حركة السفر من بلدان الشرق الأوسط على نحو مطرد في الأشهر اللاحقة، وتبلغ ذروتها في الأشهر بين أغسطس/آب ونوفمبر/تشرين الثاني شاركت فيها وكالات أسفار وخطوط طيران عدة.

كان الرئيس لوكاشينكو قد أعلن صراحة أنه لا يعتزم منع أي شخص من عبور الحدود، وأن دول الاتحاد الأوروبي ستسعد بالقوى العاملة القادمة إليها، في حين تحدثت حكومة ليتوانيا عن "حرب هجينة" على بلدها والاتحاد الأوروبي بأكمله، واتهم الاتحاد نظام لوكاشينكو باستخدام اللاجئين كسلاح ضد الاتحاد، ووصفت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل تصرفات لوكاشينكو بأنها "هجوم علينا جميعا في الاتحاد الأوروبي".


إعلان على فيسبوك لتحميل المهاجرين إلى داخل بلدان الاتحاد الأوروبي (الجزيرة)
في الثاني من ديسمبر/كانون الأول 2021 فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على أشخاص وكيانات زعم أنها متورطة في إحضار اللاجئين إلى مينسك للعبور إلى أوروبا، ومن بين من شملتهم العقوبات:

-شركة الطيران البيلاروسية الحكومية (Belavia): قرر الاتحاد الأوروبي فرض حظر على التحليق فوق المجال الجوي للاتحاد وعلى وصول جميع شركات النقل الجوي البيلاروسية إلى مطارات الاتحاد، حيث إن "بيلافيا" شاركت في جلب المهاجرين من الشرق الأوسط إلى بيلاروسيا. كان المهاجرون الراغبون في عبور الحدود الخارجية للاتحاد يسافرون إلى مينسك على متن رحلات جوية تديرها شركة بيلافيا من عدد من دول الشرق الأوسط، ولا سيما لبنان والإمارات العربية المتحدة وتركيا.

ومن أجل تسهيل ذلك، فتحت بيلافيا طرقًا جوية جديدة ووسعت عدد الرحلات الجوية على الطرق الحالية. عمل منظمو الرحلات السياحية المحليون كوسطاء في بيع تذاكر بيلافيا للمهاجرين المحتملين، وذلك ساعد بيلافيا على البقاء بعيدًا عن الأنظار، لذا يرى الاتحاد الأوروبي أن بيلافيا تسهم في أنشطة نظام لوكاشينكو التي تسهل العبور غير القانوني للحدود الخارجية للاتحاد.

ووفقًا لشركة الاستخبارات الجوية "ch-aviation"، أجّرت شركة بيلافيا 17 طائرة من بين 30 طائرة في أسطولها عبر شركات طائرات في أيرلندا، وهي عميل لشركات تأجير طائرات دولية مقرها في أيرلندا، بما في ذلك "AerCap" و"SMBC Aviation Capital "، وهذه الشركات لديها مكاتب في دبلن، و"Nordic Aviation Capital" ومقرها ليمريك وكذلك شركة "Thunderbolt Aircraft Lease" ومقرها مدينة شانون.

-تشينتركرورت (TSENTRKURORT): هي شركة سياحية مملوكة للدولة وتتبع وزارة الشؤون الرئاسية في بيلاروسيا، وهي إحدى الشركات التي تنسق تدفق المهاجرين الذين ينوون عبور الحدود بين بيلاروسيا والدول الأعضاء في الاتحاد. ساعدت هذه الشركة ما لا يقل عن 51 مواطنًا عراقيًّا في الحصول على تأشيرات لزيارتهم إلى بيلاروسيا، ووقعت عقدًا لخدمات النقل مع شركة "Stroitur" البيلاروسية التي تقدم خدمة تأجير الحافلات مع السائقين. كانت الحافلات التي حجزتها "Tsentrkurort" تنقل المهاجرين، بمن فيهم الأطفال، من مطار مينسك إلى الفنادق.

-أوسكار تور (Oscar Tour): شركة سياحة بيلاروسية مقرها مينسك، سهلت الحصول على التأشيرات للمهاجرين القادمين من العراق ونظمت سفرهم اللاحق إلى بيلاروسيا عن طريق الرحلات الجوية من بغداد إلى مينسك. وقد نُقل هؤلاء المهاجرون العراقيون في وقت لاحق إلى الحدود البيلاروسية بهدف عبورهم بشكل غير قانوني.

بفضل "أوسكار تور" واتصالاتها مع الخطوط الجوية العراقية والسلطات البيلاروسية وشركة "Tsentrkurort" المملوكة للدولة تم إطلاق رحلات جوية منتظمة من بغداد إلى مينسك من قبل الناقل الجوي العراقي، من أجل جلب مزيد من الأشخاص إلى بيلاروسيا لعبور الحدود الخارجية بشكل غير قانوني، وشاركت "أوسكار تور" في مخطط عبور الحدود غير القانوني الذي نفذته أجهزة الأمن البيلاروسية والشركات المملوكة للدولة وفق تقارير الاتحاد الأوروبي.

شركة أجنحة الشام للطيران (Cham wings): هي شركة طيران سورية خاصة تعود ملكيتها لرجل الأعمال محمد عصام شموط وشريكه السابق رامي مخلوف (ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد)، وزادت الشركة عدد الرحلات الجوية من دمشق إلى مينسك منذ العاشر من سبتمبر/أيلول 2021 من أجل نقل المهاجرين إلى بيلاروسيا. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021 افتتحت أجنحة الشام مكتبين جديدين في مينسك حتى تتمكن من تنظيم الرحلات بين دمشق والعاصمة البيلاروسية، لكنها أوقفت رحلاتها إلى مينسك في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وفق موقع "فلاي رادار".

VIP Grub: هي شركة تقدم خدمة جوازات السفر والتأشيرات ومقرها إسطنبول في تركيا، وتنظم رحلات إلى بيلاروسيا بقصد واضح لتسهيل الهجرة إلى الاتحاد، وتعلن الشركة بنشاط عن الهجرة إلى الاتحاد، لذلك تسهم في أنشطة نظام لوكاشينكو التي تسهل العبور غير القانوني للحدود الخارجية للاتحاد، كما تفيد بيانات الاتحاد الأوروبي.

تشير الشهادات والمعطيات التي توصلنا إليها إلى أن السلطات البيلاروسية فتحت أبواب الرحلات المنظمة والفردية إلى بيلاروسيا، وحاولت إغراق الحدود المتاخمة لها بالمهاجرين، فقد كانت تسهل لهم العبور رغم المآسي الكثيرة التي وقعت لهم، وتقف أحيانا حائلا دون عدولهم عن الهجرة.

وتؤكد بيانات الرحلات الجوية أن تدفقا هائلا للمهاجرين شهدته خصوصا الفترة بين أبريل/نيسان ونوفمبر/تشرين الثاني، وأن مجموعة شركات طيران شاركت في هذا التدفق -من دون وجود ما يثبت تورطها في خطة بيلاروسية- عبر 1317 رحلة إلى مينسك حملت نحو 100 ألف راغب في الهجرة النظامية، إذا اعتبرنا أن كل رحلة كانت تحمل 80 مسافرا فقط بقصد الهجرة، في حين أن سعة معظم الطائرات تفوق 140 راكبا وسعة بعضها تبلغ 400 راكب.

استثمر المهربون المحترفون أيضا الخط البيلاروسي بشكل سريع وواسع لمراكمة أرباح طائلة، وحين بدا أن هذا المسار في تراجع عادت خطوط أخرى بينها تركيا واليونان إلى النشاط، ولمن يملك 12 ألف يورو (نحو 13 ألف دولار) يمكنهم توفير خدمة إيصال سريع إلى أي من بلدان الاتحاد الأوروبي بطرق بسيطة مثل "الجواز الشبيه"!

-----
الجزء الثاني
الهجرة بجواز شبيه.. سماسرة وسوق سوداء لوثائق السفر الأوروبية
يكشف التحقيق عن سوق واسعة للجوازات الأوروبية، حيث تنشط شبكات تهريب البشر بأثينا وإسطنبول ومدن أوروبية لبيع جوازات شبيهة وأصلية ومزورة من كل الأصناف.

حين ألححت على المهرب العراقي "أمجد" (اسم مستعار)، الذي قابلته صدفة في بروكسل، لإيجاد طريقة مضمونة لإيصال قريبي المفترض من تركيا إلى بلجيكا بعد توقف المسار البيلاروسي، أطلعني على طرق ومسارات أخرى، قبل أن يفاجئني بفكرتي "الجواز الشبيه" و"التشييك".

أظهر لي فيديو لمهاجرين ينتظرون في غابة، ثم تحضر سيارة خاصة حديثة يركبون فيها وتنطلق بهم. كان ذلك خط التهريب التقليدي من تركيا برا إلى اليونان مرورا بدول شرق أوروبا عبر شبكة المهربين المنتشرة في هذه الدول، ثم إلى بلجيكا أو النمسا أوألمانيا، وقد تكون وِجهتهم كاليه في فرنسا ثم بريطانيا.

تكلفة هذا المسار الآمن -كما أكد لي- من تركيا وصولا إلى بلجيكا تبلغ 12 ألف دولار يتم دفعها على نقاط ومراحل مختلفة، وحين استكثرت المبلغ، أكد أنه يتناسب مع طول الطريق وصعوباته والتسهيلات التي يوفرها المهرب، كما أنه يوزع على عدة أشخاص:

"نحن 6 أشخاص وأنا لا أحصل على هذا المال وحدي.. إننا مجموعة منتشرة في دول كثيرة وأنا لست قائد هذه الشبكة بل عنصر فيها"، وأكّد أن قائد الشبكة يقيم في اليونان، متحفظا عن ذكر مزيد من التفاصيل التي قد يكون لا يعرفها.

بالرجوع إلى الفيديو الذي أظهره المهرب ممتدحا عمله، برز عنوان لحساب على "تيك توك"، وبالعودة إليه ظهر العديد من الفيديوهات لمهاجرين يعبرون مصحوبين برجال المهرب أو "الريبري" (الدليل) مطالبين المهاجرين في كل فيديو بتوجيه التحية إلى "أبو العبد العراقي" الذي يفترض أنه زعيم هذه الشبكة من المهربين.

ينشط "أبو العبد العراقي" هذا على "فيسبوك" و"تيك توك"، وينشر مقاطع فيديو شبه يومية لأفراد يصلون إلى المجر (هنكاريا كما ينطقونها) أو في الطريق إليها موجهين الشكر والثناء إليه. ويذكر كل شخص مكتب التأمين أو "التشييك" الذي أودع فيه المبلغ المتفق عليه مع المهرب.

و"التشييك"، مصطلح مهم في معجم المهاجرين والمهربين، ومرحلة أساسية لكل مهاجر غير نظامي يرغب في الوصول إلى أوروبا جوا أو برا أو بحرا، بالقوارب أو بالسيارات والشاحنات أو عبر المطارات عن طريق المهربين.

مكاتب التشييك.. نظام مالي خاص
تنتشر مكاتب "التشييك" هذه في إسطنبول وأثينا وبعض المدن الأوروبية والعربية- وفق ما ذكر المهربون وطالبو الهجرة واللجوء- وهي مكاتب تأمين أو تحويل أموال (أهلية كما يسمونها) تعمل بطريقة غير قانونية.

يودع الراغبون في بدء رحلة الهجرة غير النظامية المبلغ الذي تم الاتفاق عليه مع المهرب في إحداها، ويحصلون على رمز أو رموز سرية (شيفرات كما يسمونها حسب عدد السفرات) تُعطى للمهرب فور الوصول إلى البلدان المقصودة، فيتسلم أمواله من المكتب. وهي تشبه بشكل ما نظام تحويل الأموال "ويسترن يونيون" (Western Union) أو "موني غرام" (MoneyGram)، لكنها غير قانونية وتمارس في الخفاء.

تعمل هذه المكاتب غالبا تحت ستار وكالات أسفار وشركات سياحية أو خدمية، ولا تحمل أي علامة أو لافتة أو عناوين تشير إليها، فهي نقاط معلومة فقط لمن يندمج في سياق البحث عن هجرة غير نظامية عبر الشبكات الاجتماعية، ويحتك بأوساط المهاجرين والمهربين.

بحثنا عن أسماء هذه المكاتب التي يتداولها الراغبون بالهجرة في مواقع التواصل بإسطنبول فاستدللنا على بعضها، مثل: "مكتب فياض" و"مكتب ميلانو"، و"مكتب حفتارو" ومكتب "أكرم أبو علي" و"مكتب القدس" ومكتب "أهل الشام" و"مكتب العساف"، وغيرها. وحسب تعليقات كثيرة اطلعنا عليها في حسابات بوسائل التواصل الاجتماعي في الأسبوع الأول من ديسمبر/كانون الأول 2021، قام هذا الأخير بالاحتيال على الكثيرين وهرب بأموالهم التي أودعوها بمكتبه.

عادة ما يفرض المهرب اسم مكتب "تشييك" بعينه على الراغبين بالهجرة، وهو ما يوضح الكم الهائل من الاحتيال وعلاقة هذه المكاتب المريبة بالمهربين. وفي حين تغلق بعض المكاتب أبوابها بمجرد تحقيق غايتها من الربح عبر الاحتيال على المهاجرين، تواصل مكاتب أخرى عملها حرصا على استدامة هذا الدخل واستثمارا لحركة الهجرة الواسعة والمستمرة، كما تفتح فروعا لها في مدن أوروبية، وفق ما ذكر لنا بعض المهربين في تسجيلاتهم.

كومبو جوازات سفر معروضة للبيع في تركيا مواقع التواصل
الحل الأمثل.. جواز شبيه
أثنى أمجد على فكرة "الجواز الشبيه"، كطريقة سهلة ومضمونة للعبور، وفوجئت حين علمت أن هذه الطريقة رائجة بشدة خصوصا بعد تراجع مسار الهجرة عبر بيلاروسيا والحرب في أوكرانيا، لكنها تتطلب مالا أكثر واستعدادا للمجازفة.

في مدن أوروبية، وخصوصا إسطنبول وأثينا، تنتشر عمليات بيع الجوازات الأصلية والشبيهة والمزورة، نظرا لوجود آلاف اللاجئين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفغانستان وغيرها، ممن يبحثون عن طريقة لبلوغ بلدان الاتحاد الأوروبي.

يحصل المهربون على جوازات سفر أوروبية رسمية من أشخاص سرقوها أو عثروا عليها، أو يشترونها من أصحابها رأسا. ويعمد آخرون إلى تزوير جوازات بناء على بيانات حقيقية حصلوا عليها عبر شركات السياحة ووكالات السفر والفنادق، حيث يكون السائح ملزما بتسليم جوازه أو نسخة منه أو بياناته على الأقل، فيعتمدون عليها في تزوير جوازات يعرضونها لاحقا للبيع على شبكات التواصل ومواقع إلكترونية.

وجدنا في وسائل التواصل الاجتماعي إعلانات متنوعة لجوازات سفر شبيهة. أحدهم يعلن عن توفر جوازات سفر يونانية، وآخر يعرض جوازات أوروبية مختلفة وجوازا إسرائيليا، وجوازات لجوء لمواطنين عرب. وعلى المهتمين إرسال صورة يقارنها المهرب مع الصورة الأصلية بالجواز وإذا كان الشبه مقبولا، تتم الصفقة مقابل مبالغ متفاوتة.

كومبو جوازات سفر ألمانية معروضة للبيع مواقع التواصل
جوازات سفر وبطاقة هوية ألمانية وجوازات لجوء معروضة للبيع على مواقع التواصل
حين عرف المهرب "أمجد" أنني أحمل جواز سفر أوروبيا، عرض عليّ 5 آلاف يورو (نحو 5280 دولارا) مقابل شرائه، وأبدى استعداده لرفع المبلغ حين تظاهرت بقبول الفكرة وأخبرته أن ما عرضه قليل، وأنه لا شك سيبيعه بأضعاف هذا المبلغ.

"انتظر.. لدي صورة لأحد العراقيين في إسطنبول يريد جواز سفر شبيها وأعتقد أن هناك تشابها بينكما". ومن بين صور عديدة على هاتفه أظهر واحدة لشاب يبدو في نهاية العشرينيات من عمره. "أريد صورة جواز سفرك أو الهوية حتى أرسلها إلى هذا الشخص في إسطنبول.. إنه يشبهك".

استمر "أمجد" في إغرائي ببيع جواز سفري قائلا: "لا مشكلة.. المبلغ الذي سنبيعه به سنقتسمه". وأرسل لي رسائل عديدة عبر واتساب، مستعجلا إياي لإرسال نسخة من الجواز، تعللت عدة مرات بالسفر وأنني سأرسلها حين العودة.

فهمت أن ما عليّ فعله هو تسليمه الجواز ثم إمهاله 3 أو 4 أيام قبل أن أقدم بلاغا للسلطات بفقدان جواز سفري. في هذه الفترة يكون كل شيء قد انقضى، ووصل الشخص الذي يشبهني قليلا أو كثيرا بجواز سفري وصورتي وبياناتي إلى البلد الأوروبي الذي يريده من المطار الذي يريده، مع معدل مخاطرة معقولة ومحسوبة.

إضافة إلى شراء جواز السفر، حاول "أمجد" إقناعي بالعمل معه ضمن شبكته "سمسارا"، حيث سأتولى التواصل مع من يريد الهجرة أو من يود إحضار أقرباء له إلى بلجيكا مقابل 500 يورو (نحو 530 دولارا) عن كل شخص.

هجرة شبه نظامية!
مع كل ما ذكره المهرب، وما اطلعت عليه في وسائل التواصل الاجتماعي وعروض جوازات السفر الشبيهة، كنت متشككا في مدى نجاح فرصة اجتياز المطارات الأوروبية ذات الإجراءات الصارمة -وفي ظروف استثنائية- بجواز سفر شبيه، فما بالك أن تصبح طريقة رائجة باعتراف الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (Frontex).

يؤكد تقرير فرونتكس الصادر في 30 يونيو/حزيران 2021 أن شبكات الجريمة المنظمة تتورط في إنتاج مستندات مزورة وفي الحصول على المستندات الأصلية وتداولها وتوزيعها بشكل متزايد عبر الإنترنت. وأن المهربين يقدمون مجموعة واسعة من المستندات الأصلية أو المزيفة التي يتم الحصول عليها بالاحتيال عبر منصات التواصل الاجتماعي لتلقي الطلبات بشكل مباشر من العملاء.

وفق هذا التقرير، تم اكتشاف 1500 حالة دخول بوثائق مزورة عام 2020، بينها جوازات شبيهة، وقد انخفض عدد الحالات بنسبة 57% مقارنة بالعام السابق، أي أن عدد الحالات المكتشفة عام 2019 تجاوز 3 آلاف حالة عبور بوثائق مزورة.

تواصلنا مع فرونتكس حول الانتشار الواسع للجوازات الشبيهة والوثائق المزورة وطريقة مواجهتها، فردت بأن "انتحال الهوية طريقة معروفة لإساءة استخدام المستندات الأصلية، وقد يتسبب التشابه الكبير بين المالك الأصلي والجديد للمستند في بعض الحالات في زيادة صعوبة عمليات التحقق من الحدود واكتشاف المحتال. نحن ندعم الدول الأعضاء لمواجهة هذا النوع من التكتيكات من خلال تنظيم دورات تدريبية على الكشف عن الوثائق المزورة لحرس الحدود وإنفاذ القانون، وتبادل الخبرات ودعم الأنشطة التشغيلية بشأن تزوير المستندات".

حاولنا التقصي عن طرق بيع الجوازات الشبيهة وحالات العبور بها ومسارات الدخول. وثّقنا حالات عديدة أثبتت لنا أنها من أكثر طرق النفاذ إلى بلدان الاتحاد الأوروبي شيوعا.

يبحث الراغبون في الهجرة غير النظامية في البداية عن مهربين وجوازات للبيع في حسابات كثيرة منشورة على منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما اتبعناه في هذا التحقيق، اعتمادا على حسابات وأسماء وهمية على مواقع التواصل.

سوق حرة لوثائق السفر!
اكتشفنا على مواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعي سوقا مزدهرة لتجارة الجوازات وبطاقات الهوية الأوروبية وحتى الأميركية والكندية والعربية (السورية واليمنية والفلسطينية التي تساعد على قبول طلبات اللجوء) وعروض التهريب.

اطلعنا على مئات المجموعات الناشطة في هذا السياق على تطبيقات "إنستغرام" و"تيك توك" وعشرات الصفحات والحسابات على فيسبوك يتفاعل معها المئات. كانت خيارات الجوازات المعروضة أكثر مما تصورنا وبأسعار تنافسية.

تصنف هذه الصفحات، التي يديرها مهربون محترفون وآخرون هدفهم اقتناص فرصة تحيل، ضمن سياق الجريمة المنظمة والاتجار بالبشر، لا سيما مع المآسي الكثيرة التي تحصل للمهاجرين عبر طرق الهجرة المختلفة.

تواصلنا مع إدارة فيسبوك حول الانتشار الواسع للحسابات المختصة في التهريب وبيع الجوازات وما يصاحبها من احتيال وتجارة بأوجاع المهاجرين، فكان ردها: "نحن نواصل الاستثمار في التكنولوجيا والأشخاص لتحديد هذه الصفحات والمجموعات بشكل استباقي وإزالتها من منصتنا متى وجدناها، ونحن نشجع الناس على الإبلاغ عن المحتوى الذي يعتقدون أنه قد يخالف قواعدنا".

ما زالت المئات من الحسابات نشطة، وتنشر فيها عروض التهريب ووثائق السفر المختلفة ومسارات الهجرة غير النظامية وتفاصيل البيع والشراء، والأسعار، كما يتابعها ويتفاعل معها آلاف الأشخاص.

خلال شهري مايو/أيار ويونيو/ حزيران 2022 تواصلنا مع عدد من المهربين ممن ينشطون على وسائل التواصل الاجتماعي وتظاهرنا بأننا مهاجرون نبحث عن منفذ للوصول إلى أحد بلدان الاتحاد الأوروبي، وطلب اللجوء هناك. حصلنا على عروض كثيرة وخيارات متنوعة ومتفاوتة من حيث الأسعار.

طلب المهرب المدعو "همام بيك" -يعمل في إسطنبول- في مكالمة معه عبر واتساب صورة شخصية لمقارنتها مع الجوازات الموجودة لديه.

عالجنا صورة وهمية حرصنا أن تكون ملامحها عربية شرق أوسطية وأرسلناها، فرد بإرسال جوازين فرنسيين وآخر أميركي وبطاقة هوية هولندية. لم يكن الشبه مناسبا، لكن المهرب أكد أن لديه خيارات أكثر، وعلينا فقط إرسال الصورة مع شعر أقصر لتسهيل البحث.

تجنب المهرب "همام بيك" -وكل من تواصلنا معهم من المهربين- الحديث عن مصدر هذه الجوازات والهويات الكثيرة التي يختار منها ما يلائم زبائنه. أخبرنا أحد المهربين أنها تأتي من سفارات دون أن تكون أرقامها مسجلة رسميا، كما أكد آخر أنها تشترى من عصابات تسرقها أو من أصحابها ممن يعرضونها بدورهم على وسائل التواصل، أو بالاتصال المباشر مع المهربين.

في مكالمة معه، أكد المدعو "همام الرشاد" (سوري الأصل ويمارس نشاطه من إسطنبول) أن لديه طائفة واسعة من الجوازات الأصلية والنسخ، إسبانية وإيطالية وبلجيكية وألمانية، ومن جمهورية الدومينيكان، وكذلك جوازات لجوء لمواطنين عرب في ألمانيا وبلجيكا والسويد.

عرض جوازا بلجيكيا أصليا بسعر 1700 يورو (نحو 1800 دولار)، وآخر مزورا مقابل 1200 يورو (نحو 1266 دولارا)، مشيرا إلى أنه سيقوم بوضع الصورة التي سترسل إليه على الجواز الأصلي، إضافة إلى تأمين بطاقة الهوية وتغيير الرقاقة.

قدّم "همام الرشاد" أيضا عرضا جيدا، يشمل إمكانية السفر إلى الوجهة الأوروبية عبر مطار العاصمة السودانية الخرطوم "بشكل مضمون"، مقابل 5 آلاف دولار إضافية (نحو 5280 دولارا).

من أجل تبديد أي مخاوف، أرسل المهرب مقطع فيديو يتضمن جوازا وهوية بلجيكية، يستعرض فيه التفاصيل وصعوبة كشفهما على أجهزة سكانر وخاصية التعرف على الرموز أو الرمز الشريطي (Barcode)، والتي تشبه تلك التي تستعملها الجمارك في المطارات، كما أكد أن أشخاصا استخدموا نفس الجواز ووصلوا إلى بلد المقصد بسهولة.

في مقطع الفيديو، وعندما كان المهرب يفحص بطاقة الهوية على الماسح الضوئي لتأكيد جودتها، تظهر بطاقات هوية كثيرة تبدو أوروبية، تؤكد الخيارات الكثيرة التي بحوزته.

كان علينا فقط إرسال البيانات والصورة والتوقيع ودفع مبلغ 300 يورو (نحو 315 دولارا) للمهرب عبر وسيط سنقابله في إسطنبول، لتلقي فيديو للجواز الجديد، وبعدها يتم تسديد المبلغ المتبقي واستلام جواز السفر وبطاقة الهوية البلجيكية بالطريقة نفسها.

أما "أبو إياد"- وهو مهرب سوري أيضا يعمل في إسطنبول- فقد عرض حزمة كاملة للسفر من إسطنبول إلى بلجيكا، تشمل جوازا هولنديا أصليا وبطاقة هوية وتذاكر السفر مقابل 10500 يورو (نحو11050 دولارا).

وحسب خطته، سيحضر صاحب الجواز الأصلي (الذي سيبيع جوازه) من هولندا إلى إسطنبول، ثم يتم تغيير الصورة الأصلية بواسطة الليزر، وتوضع صورة الشخص الجديد (معد التحقيق)، وسيساعد ختم الدخول إلى إسطنبول في خروج الشبيه دون مشاكل إلى أمستردام، مع تأمين تسهيلات بمطار صبيحة، حسب قوله.

في مثل هذه الحالات، لا يغادر صاحب الجواز الأصلي إلا بعد وصول شبيهه إلى البلد المقصود ويمزق الجواز ويطلب اللجوء، بعدئذ يذهب إلى قنصلية بلده لطلب استصدار تأشيرة عودة أو جواز جديد بدل المفقود (كما سيدعي).

لا يحفل المهاجرون كثيرا بإجراءات الدخول المشددة إلى المطارات الأوروبية وبصمة الأصابع والعين أو الوجه التي قد تكشف هويتهم الحقيقية، فمجرد وصولهم إلى تلك المطارات وتقديم طلب لجوء، تعد نهاية سعيدة لرحلتهم المرهقة.

بحثنا أيضا عن مهربين آخرين. قدم كل واحد منهم عروضا مغرية للهجرة. عرض المهرب المدعو "أبو علي" جوازا أوروبيا أصليا مع تغيير الصورة، والسفر من أزمير إلى أثينا ثم إلى بلجيكا جوا مقابل 9500 يورو (نحو 10 آلاف دولار) يتم تأمينها في أي من مكاتب "التشييك" في إسطنبول أو أزمير أو أثينا.

حين تواصلنا مع المهرب المدعو "أبو مصطفى" -ومقره أثينا- عبر واتساب طلب صورة، فعالجنا واحدة وأرسلناها، فرد بإرسال جواز سفر فرنسي شبيه. كانت الصورة بالجواز تشبه إلى حد معقول الصورة المعالجة، وحدد سعر الجواز مقابل 4500 يورو (4750 دولارا).

أكد "أبو مصطفى" أن توفير الجواز والسفر لن يأخذ أكثر من يومين، وأن المسألة بسيطة و"سهلة جدا"، في إشارة إلى السفر بالجواز الشبيه.

لاحقَنا تاجر الجوازات هذا بالكثير من المكالمات ومراسلات الواتساب مستعجلا استكمال الصفقة، التي اكتفينا منها بمعرفة التفاصيل.

ينشط المهرب المدعو "ناصر مؤيد" أيضا من العاصمة اليونانية أثينا. وللسفر إلى بلجيكا جوا خلال أسبوع، عرض توفير جواز لجوء عربي (يتسلمه اللاجئون العرب في البلدان الأوروبية) يتشابه مع الصورة التي سنرسلها له بنسبة 60%، ثم يتولى تغيير ملامح صاحبه الأصلي ليصل الشبه مع صورة المهاجر المفترض إلى 90%، كما يقول.

شمل عرض "مؤيد" أيضا مرافقتنا على نفس الرحلة حتى الوصول إلى العاصمة البلجيكية بروكسل، مقابل 5 آلاف يورو (نحو 5280 دولارا).

لأسباب كثيرة، لم نستطع استكمال رحلة الهجرة مع المهربين الذين كانوا مستعدين لبيعنا وثائق سفر أوروبية أصلية أو شبيهة وأخرى من مختلف دول العالم، مع تسهيلات في المطارات، لكننا حاولنا في المقابل البحث عن أشخاص فعلوا ذلك.

شبيه بين المطارات الأوروبية
لم يكن يخيّل للشاب السوري سراج (38 عاما) -وهو اسم مستعار- أنه سيصل دون عناء إلى بروكسل بجواز سفر أيرلندي، قطع سراج ورفاق له مئات الكيلومترات سيرا في الجبال الممتدة بين تركيا واليونان مهتدين بتطبيق خرائط غوغل أوصلتهم بسلام إلى مدينة سالونيك شمالي اليونان.

في هذه المدينة التي تعج بالمهاجرين واللاجئين والمهربين راقت له فكرة الجواز الشبيه، فتواصل مع مهرب سوري في أثينا طلب منه صورة وبعض مواصفاته كالطول والوزن، أبلغه بعد يومين بتوفر جواز أيرلندي مع هوية صاحبه مقابل 5 آلاف يورو (نحو5280 دولارا).

سافر سراج مباشرة إلى أثينا والتقى المهرب وحددا موعد السفر وحجزا تذكرة السفر، كما أجرى اختبار فيروس كورونا باسم الشخص الأيرلندي الذي حمل اسمه وهويته وجواز سفره، كانت نتيجته سلبية.

لم يواجه الشاب السوري أي متاعب في مطار أثينا، ولم تطلب منه الجمارك أو شرطة المطار حتى نزع الكمامة ليتسنى لهم رؤية وجهه كاملا. كان من حسن حظه أنه نفذ في هذا اليوم كما يقول: "فقد قبض على 20 شخصا كنت تعرّفت إليهم في مطار أثينا، حاولوا السفر بجوازات شبيهة".

أصبحت أثينا مقرا محبذا ومثاليا للمهربين وتجار الجوازات ومنطلقا للمهاجرين وطالبي اللجوء، لأن النجاح بالخروج من مطاراتها يضمن العبور الآمن إلى بقية بلدان الاتحاد الأوروبي دون تفتيش وإجراءات شرطة وجوازات عكس القادمين من خارجه

كانت رحلة "سراج" إلى بلجيكا تمر عبر مطار "مالبينسا" في ميلانو، ثم تستكمل في صباح اليوم التالي من "ليناتي"، مطار المدينة الثاني إلى مطار بروكسل شارلروا جنوب العاصمة البلجيكية، وفي كل هذه المطارات لم تكتشف السلطات الأمنية أمر الجواز الشبيه.

فور الوصول إلى مطار شارلروا تقدم نحوه شخص عربي قائلا: "بهدوء أعطني الجواز دون أن تنظر إليّ"، ثم أخذه واختفى بين الحشود. كان هذا الرجل على نفس الرحلة القادمة من ميلانو إلى بروكسل في مهمة استرجاع جواز السفر لاستعماله في عمليات دخول مهاجرين آخرين.

رحلة الأحميد.. عامان و18 محاولة عبور
استمرت رحلة محمد الأحميد (32 عاما) -وهو "بدون" من الكويت- منذ بداية عام 2019 إلى أغسطس/آب 2021 عندما وصل إلى هدفه الأخير وهو بريطانيا بعد المرور بـ10 دول أوروبية، بدءا من جورجيا ثم إلى تركيا مستعملا الجوازات الشبيهة والمزورة وطرقا أخرى.

كان على الأحميد الحصول أولا على جواز سفر كويتي لبدء رحلته، وبعد دفع مال لأحد المسؤولين -يقبع حاليا في السجن كما يقول- استطاع الحصول على وثيقة سفر كويتية يتم إصدارها للبدون في حالات العلاج والدراسة، ولا تمكنه من الحصول على فيزا "شنغن"، وتختلف عن الجواز الكويتي الرسمي في اللون والامتيازات.

تمكن من الوصول إلى أثينا عبر مهرب فلسطيني، وقرر السفر بواسطة جواز أوروبي لشبيه. خلال 3 أشهر حاول الأحميد السفر عبر مطار أثينا بجوازات شبيهة أحدها بلجيكي وآخر سويدي ثم عبر هوية دانماركية وفرها له مهرب كردي مقابل 7 آلاف يورو (نحو 7400 دولار) يدفعها عبر مكتب حفتارو بعد الوصول.

باءت كل محاولاته بالفشل وألقي القبض عليه في مطار أثينا، وأطلق سراحه في المرة الأولى، وسجن في المحاولة التالية 4 أيام، ثم في المرة الأخيرة وقّع تعهدا بعدم تكرار ذلك تحت طائلة حكم بالسجن المطول والغرامة.

رغم انتشارها وكثرة الإقبال عليها، لا تسير طريقة الجوازات الشبيهة دائما بسهولة، حيث يتم القبض على العديد من حامليها في المطارات، كما تفكك السلطات الأوروبية أحيانا بعض الشبكات التي تعمل في تجارة الوثائق الرسمية.

إثر فشل فكرة الجواز الشبيه، قرر السفر برا انطلاقا من مدينة سالونيك نحو شرق أوروبا بعد الاتفاق مع مهرب عراقي، لكن الجيش اليوناني ألقى القبض عليه وتم ترحيله إلى تركيا: "تمت إعادتنا إلى نقطة الصفر"، كما يقول.

ظل الأحميد لمدة شهر في تركيا، واستعمل وثيقة السفر الكويتية للسفر إلى ألبانيا ثم إلى صربيا عبر مهربين. ونجح بعد 18 محاولة في العبور من صربيا إلى رومانيا عبر شاحنة مهرب سوري الجنسية، ثم إلى فيينا (عاصمة النمسا) مقابل 4100 يورو (نحو 4320 دولارا) فباريس ثم كاليه، حيث يوجد آلاف المهاجرين الحالمين بالوصول إلى بريطانيا.

في كاليه، تواصل الأحميد مع مهرب عراقي كردي كان قد أوصل مجموعات من المهاجرين وطالبي اللجوء، مقابل 2100 جنيه إسترليني (2576 دولارا) تم تأمينها عبر وسيط في بريطانيا. وبعد محاولتين فاشلتين، كللت المحاولة الثالثة بالنجاح في شهر أغسطس/آب 2021، حيث دخل الأحميد ورفاقه المياه الإقليمية البريطانية في قارب يحمل نحو 80 شخصا وتقدم بطلب لجوء ينتظر البتّ فيه.

عالم "الويب المظلم"
بشكل عام، تعتبر الجوازات ووثائق السفر الجزء البارز من جبل الجليد في ما يعرف بالويب المظلم (Dark Web)، فالتقدم التكنولوجي والتشابك في الأنظمة المالية والأمنية والمعلوماتية سمح بعرض وبيع كل ما يخطر على بال على مواقع الإنترنت، من قرصنة حسابات وسائل التواصل وغوغل وقواعد البيانات، إلى بطاقات الائتمان والدفع الإلكتروني (باي بال) وويسترن يونيون والبرمجيات الخبيثة، وكذلك رخص القيادة وحتى حسابات "أوبر" لخدمات النقل وغيرها.

ويحدد موقع (privacy affairs) مؤشر أسعار "الويب المظلم" لمختلف هذه الخدمات لعام 2022، حيث تختلف باختلاف نوع وأهمية الجواز أو الهوية أو عدد الحسابات المستهدفة بأي من مواقع التواصل أو حساب الدفع الإلكتروني، أو قيمة المبلغ الذي تتضمنه بطاقة الائتمان.

فجوازات السفر الفرنسية والبولندية والمالطية مثلا، يبلغ معدل سعرها 3800 يورو (نحو 4030 دولارا) وبطاقات الهوية لبلدان الاتحاد الأوروبي بنحو 160 يورو (169 دولارا) ورخصة القيادة الأميركية بـ150 يورو (160 دولارا).

للتحقق من وضع بعض الجوازات التي أرسلها لنا المهربون وتجار الجوازات اخترنا بعضها، وبحثنا عن حسابات أصحابها على مواقع التواصل الاجتماعي وفقا للبيانات والصور الموجودة على تلك الجوازات، راسلناهم لسؤالهم عن أسباب وظروف عرض جوازاتهم من قبل المهربين على طالبي الهجرة غير النظامية، وكيفية وقوعها بين أيديهم، وهل تم التبليغ عنها، ولم نحصل على رد منهم حتى نشر هذا التحقيق.

أكد معظم المهربين، الذين تواصلنا معهم أن الجوازات التي عرضوها وأرسلوا نسخا منها إلينا أصلية وسارية المفعول، يتم شراؤها من أصحابها (كما ذكر المهرب أبو مصطفى وحاول معي أمجد)، كما قد تكون مسروقة أو تم الحصول عليها بالتحايل، أو مزورة بدقة بناء على بيانات حقيقية وصورة لأصحابها تم الحصول عليها بطريقة ما.

تؤكد فرونتكس أيضا، أن المهربين وتجار الجوازات يعرضون غالبا وثائق أصلية (جوازات وبطاقات هوية)، وهو ما يصعب إمكانية اكتشافها على الحدود المفتوحة للاتحاد الأوروبي، لكن في حالات التبليغ عن ضياع أو سرقة جواز السفر يتم شطبه آليا من السجلات في المعابر الحدودية.

تواصلنا أيضا مع السلطات المعنية بإصدار الجوازات في بلجيكا وفرنسا للاستفسار عن وضع نفس الجوازات التي أرسلت لنا من قبل المهربين أرفقنا الرسالة بصور الجوازات بكل بياناتها.

سألناهم عن كيفية التعامل مع مثل هذه الحالات، وظاهرة انتشار الجوازات الشبيهة والأصلية واستغلال المهاجرين من قبل مافيا وثائق السفر، دون أن يصلنا رد حتى نشر هذا التحقيق.

لا مفر للمهاجرين والباحثين عن اللجوء الأوروبي من الوقوع في مصيدة المهربين ودخول مزاد "سوق الجوازات" هذا، تدفعهم الأوهام أو الأحلام أو الشجاعة التي تولد من رحم المعاناة إلى تجربةٍ، يصفها لنا المهرب "أبو مصطفى" -كما لغيرنا بالتأكيد- بعبارة "تطلع أستاذ تنزل دكتور". تلك قد تكون، من حيث المبدأ، أفضل من قضاء 20 يوما في صندوق شاحنة، أو رحلة مريرة بين ضفتي نهر إيفروس على الحدود التركية اليونانية.