Show Menu
True Story Award 2023

لُغْزُ المَدينَةِ المَنْسِيَّةِ وَشاعِرِها المُختَطَف (شَاعِرٌ يَبْحَثُ عَنْ مَصِيرِ شَاعِر)

تربطني بالشاعر المُخْتَطَفْ محمَّد الإدلبي علاقتان؛ الأولى أنني أكتب الشعر، والثانية أننا من بلد واحد؛ إدلب الخضراء المدينة المنسية. وقد بدأ اهتمامي بمصيره منذ طفولتي، حين حدَّثني أبي عنه، فرغبت أن أوثِّق قصته، وأكشف عنها الغبار.

تربطني بالشاعر المُخْتَطَفْ محمَّد الإدلبي علاقتان؛ الأولى أنني أكتب الشعر، والثانية أننا من بلد واحد؛ إدلب الخضراء المدينة المنسية. وقد بدأ اهتمامي بمصيره منذ طفولتي، حين حدَّثني أبي عنه، فرغبت أن أوثِّق قصته، وأكشف عنها الغبار.
إذا تشابكت خيوط الشمس المشعة مع أوراق الزَّيتون والتين والمشمش واللوز، وألقت ظلالها فوق تربة حمراء، فهذا يعني أننا في إدلب الخضراء، إدلب العروس التي يكللها تاجٌ من خضرة الزَّيتون، وتزين نحرَها عناقيدُ العنب، وتسوِّر معصميها حمرةُ التين وصفرته، وتصفقُ بخلاخيلها حبَّاتُ المشمش والجوز واللَّوز، وإذا وقفْنا فوق روابيها وسرَّحنا البصرَ بعيداً بعيداً، سيحاصرنا امتدادُ البحرِ من كلِّ الجهات، لكنَّه ليسَ بحراً أزرقَ المياه، إنَّه بحرٌ أخضرُ يتسابقُ مع الأُفُقِ فلا يسبقُهُ الأُفُقُ، وإذا أردنا أنْ نُسعفَ الأفقَ المهزوم أمامَ الخضرة البهيَّةِ، فما علينا سوى ارتقاء التلال إلى الجبال، لكنَّنا سنُفاجأ بامتدادٍ منْ نوع آخر؛ خضرةٍ تناطحُ الغيومَ وتتألَّقُ بعقودٍ رائعة الجمال من الكرز الأحمر، إنها شفاه العروس إدلب وكأنها تتهيَّأ لفرحة الزفاف.
إدلب الخضراء ما زالت تحمل بين جنبيها الكثير من ألق الماضي، فهي مدينة الزيتون، ومدينة البساطة والصفاء، لكنَّها في الوقت ذاته مدينة تخوض حربها الخاصة منذ أكثر من نصف قرن وحتى هذه اللحظة؛ بالتحديد منذ عام 1970 حين زارها الانقلابي حافظ الأسد ضمن زياراته للمحافظات السورية ليقنع الشعب السوري بقيادته لهم بعد انقلابه على الشرعية خلال عقد الستينيات مرات عديدة. تلك الزيارة اتسمت برفض شعبي كبير لذلك الطاغية الجديد، والذي لم يستطع بكلامه المعسول المنمق أن يخدع شعب مدينة إدلب، فقذفوه بالطماطم والأحذية وهو يلقي كلمته من شرفة بناء المركز الثقافي نحو الجماهير المتجمعة في ساحة هنانو. هذا الرفض الشعبي حمل حافظ الأسد على المغادرة بسرعة حاملاً معه خزياً كبيراً، وحقداً سيترجمه خلال العقود اللاحقة بأسوأ الجرائم، وخلال عهده الأسود تم تهميش إدلب حتى حملت لقب المدينة المنسية بجدارة؛ فالأوتوستراد الدولي لم يمر من خلالها بل يبعد عنها 20 كيلومتراً نحو الشرق، وكذلك خط سكة الحديد يبعد 10 كم نحو الغرب، والبنية التحتية بقيت بأسوأ حالاتها خلال عقود.
مضت أربعة عقود على اعتقال الشاعر محمد الإدلبي، وبالرغم من ان الأحداث التي تجري في سورية منذ عام 2011 قد غطت على الكثير من حالات الاعتقال والفقد التي تعرض لها السوريون خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين. إلا أنني وجدت الفرصة سانحة لمحاولة العثور على معلومات مفصلة عن مصير ذلك الشاعر. فأبناء الشاعر أصبحوا في مأمن حين يريدون الحديث عن قضية والدهم، لأن إدلب، المدينة التي يسكنون فيها، لم تعد تحت سيطرة النظام السوري، وكذلك العديد من أصدقاء الشاعر هاجروا إلى تركيا أو غيرها من البلاد بعيداً عن سطوة النظام المستبد، وأصبحوا قادرين على البوح بالمعلومات التي يعرفونها.

إدلب بين معركتين - المعركة الأولى:
في ربيع 2011 انطلقت المظاهرات العارمة تطالب بالحرِّية التي حُرم منها السوريون لعقود خلت. كانت المظاهرات تشمل كل مناطق مدينتي، وتمر أمام منزلي، وتتعرض في كثير من الأحيان للقمع على أيدي رجال المخابرات والجيش وحفظ النظام، حيث تجري عمليات الاعتقال والتعذيب الجسدي، وقد قدمت مدينة إدلب أول شهيد في ذلك العام، مما أجَّجَ الغضب في نفوس الناس، فاندفعوا بقوة كبيرة للسيطرة على المدينة، ولم يبق سوى المربَّع الأمني تحت سيطرة النظام.
ما زلتُ أذكر حادثة مؤثرة حصلت في نيسان من عام 2011؛ في ذلك اليوم فقدتْ طفلةٌ ساقَها أثناء القصف العشوائي على المدينة، فأسعفها والدها إلى المشفى، وأجريت لها المعالجة اللازمة، وقبعت في سرير المشفى وسط بكاء أبويها. قبل أيام، كان الأب يصحب طفلته في الطريق، فجأةً عصفت ضجةٌ في الخارج، سألت الطفلة: بابا! ما هذه الأصوات؟
قال الأب: مُظاهَرَة. سألت الطفلة مرَّةً أخرى: ماذا يقولون؟ أجاب الأب: يهتفون مطالبين بالحرِّية. تساءلت الطفلة بغرابة: ما هي الحرية؟ تلعثم الأب: الحر..ية، ستفهمين حين تكبرين يا حبيبتي. في اليوم التالي تفرَّقت المظاهرة بالحجارة التي قذفها أعوان الطاغية، وفي اليوم الثالث تفرقت المظاهرة بالقنابل المسيلة للدموع، ووضع الأب كمامة على وجه الطفلة، وفي اليوم الرابع سقط عدد من الجرحى بالرصاص الحي، وانبطح الأب وطفلته على الأرض، وفي اليوم الخامس قُصفت المدينة بالمدافع والدبابات، وفقدت الطفلة ساقها. خارج نافذة غرفتها في المستشفى سمعت الطفلة كلمة "حرِّية"، ارتعدت، تمتمت باكيةً: بابا! هل يمكن أن يأخذ المتظاهرون ألعابي بدلاً من الحرِّية؟
منذ بدء الأحداث لم تعد المدارس آمنة. في الصباح ربيعي من ذلك العام اصطحبت بناتي وبنات جاري إلى المدرسة القريبة، ثم ذهبتُ إلى العيادة على قلق مني. في الساعة العاشرة وقعت قذيفة قرب المدرسة، فتم صرف التلاميذ من مدارسهم، وذهبت زوجتي الحامل وجارتنا لاصطحاب الصغيرات. خلال عام تطورت الأمور نحو الأسوأ، و أصبحت بلدنا تترقب اقتحام الجيش في أي لحظة، بينما كان الثوار يجهزون أنفسهم للمعركة، والبعض يجهز نفسه للهروب لمعرفته باستحالة المقاومة. في 10 آذار من عام 2012 استيقظتُ قبل شروق الشمس على أصوات إطلاق رصاص بعيد خارج الكورنيش على الجهة الجنوبية من المدينة، حيث يقع منزلي. خرجتُ لأتفقد الحارة فوجدت البعض من جيراني قد حزموا أغراضهم وانطلقوا نحو داخل المدينة. دخلت منزلي في حيرة من أمري، فسمعت صوت الهاتف يرن. حملتُ السماعة فإذا أمي على الطرف الآخر تطلب مني أن لا أذهب اليوم إلى العيادة، فقد سمعتْ أصوات جنازير الدبابات. خرجت مرة أخرى لتفقد الطريق، ففوجئت في مدخل العمارة بصناديق من الذخيرة ومضادات دروع ورشاشات، وعدد من الثوار. طلب الثوار مني أن أدخل، فسألتهم: متى ستبدأ المعركة؟ فقالوا: لقد بدأت بالفعل. دخلت منزلي، وبدأ الرصاص يصطدم بجدار حديقة منزلي من الجهة الجنوبية، وهنا استيقظت زوجتي الحامل وطفلتايَ الصَّغيرتان؛ مي وتيما. بدَّلنا ملابسنا بسرعة ونحن نجتهد في الانخفاض عن مستوى النوافذ، ثم خرجنا من المنزل، لكننا لم نستطع أن نخرج من باب العمارة، فقد بدأت المعركة، وكان الثوار يوجهون الرشاشات نحو الجنوب حيث بدت طلائع الدبابات.
فتح جاري أبو سعيد باب منزله المقابل لمنزلي، ودعاني للدخول، وهناك وجدت خمس عائلات من الجيران يجلسون بتوجس وخوف. بعد ساعة من بدء المعركة تصاعد الهجوم، وارتجَّت العمارة على صوت شديد للغاية، وعلمتُ أن قذيفة دبابة قد اصابت منزلي، عندها لم أعد آمَنُ على عائلتي ونفسي، فخرجنا نحو باب العمارة، وأخبرت الثوار أنني أريد المغادرة إلى الحارة الخلفية، فشكلوا جداراً منهم لتأمين حمايتنا وخروجنا، وساعدوني في حمل أطفالي، إلا أن الرصاص انهمر غزيراً باتجاهنا، فتعثرت زوجتي، فأنهضتُها وسارعنا نحو الحارة الخلفية، لكنَّ أحد الثوار من جيراننا أصيب برصاصة قاتلة.
أصبحت مشاعري مختلطة بين الخوف والحزن والكثير من القلق مما سيأتي. لجأنا إلى منزل أحد الأصدقاء، فدعاني إلى قبوٍ في عمارته، وهناك فوجئت بأكثر من خمسة عشر عائلة، وقد توزع الرجال في شقة والنساء في الشقة المقابلة، وهناك قامت إحدى جاراتنا – وكانت تعمل ممرضة – بفحص زوجتي، وتبين أنها تبدي علامات تمزق في الرحم يبدو أنه أصابها أثناء تعثُّرها. استمرت المعركة حتى ساعات الظهيرة، وكانت المروحيات تحوم فوق المنطقة وتقصف تجمعات الثوار، وأثناء المعركة نزل إلى القبو شاب مسلح، وطلب مفتاح السطح متحدثاً بلهجة غريبة، فسألته: من أين أنت؟ فقال: أنا من ليبيا. فقلت له: إن صعدتَ إلى السطح لترمي على الطائرات ستصبح العمارة هدفاً للقصف المباشر، وسنصبح كلنا تحت الأنقاض، فغادر مسرعاً. في تلك اللحظة شعرت أن ثورتنا ستسرق منَّا، وتصبح نهباً للأيادي الغريبة، واللحى الغريبة والمخططات التي لا علاقة لها بتطلعاتنا، وهو ما أكَّدته الأحداث اللاحقة.
في تمام الثانية بعد الظهر توقف إطلاق النار، وسمعنا أصوات جنازير الدبابات والمدرعات أمام العمارة، ثم سمعنا أصوات الضباط يعطون الأوامر للجنود. فأدركنا أن الثوار قد انسحبوا، وأن الجيش سيطر على المنطقة. فجأة دخل عدد كبير من الجنود إلى القبو، وطلبوا من الرجال الخروج من العمارة، وأخذوا بطاقاتنا الشخصية. عندما كنت أهم بإعطاء بطاقتي الشخصية للجنود اقترب مني جندي وسألني بصوت خافت: ما هذه البطاقة الأخرى التي في يدك؟ فأخبرته أنها بطاقة نقابة أطباء الأسنان. فقال لي: قم بإخفائها بسرعة وإلا اعتبروك طبيباً ميدانياً. ففعلت. بعد ذلك جاء جنود واعتقلونا جميعاً، وتركت عائلتي مع النساء. حشرنا الجنود في سيارة كبيرة، ونقلونا إلى سجن حفظ النظام، وهم يهددوننا بالقتل والعذاب. استمر اعتقالنا عشر ساعات، وفي الليل تم إخلاء سبيلنا، فعدت إلى منزلي وسط الظلام، ولم أتمكن من فتح الباب بسبب الأذى الذي لحق بالقفل أثناء المعركة، فنمت عند جاري المقابل بعد أن اتصلت بأهل زوجتي واطمأننت عليها وعلى بناتي الصغيرات، كما اتصلت بأمي التي لم تكف عن الدعاء منذ علمت باعتقالي. وهكذا تمت السيطرة على المدينة بشكل كامل.
مضت شهور كنَّا نسمع أخبار المدن السورية وآلامها دون أن نكون قادرين على التعبير عن تضامننا معها، وأثناء حصار داريا، طالعتني صور الفتيات الصغيرات من بنات داريا وهن ينتظرن توزيع المعونة الهزيلة، فلجأت إلى صومعتي الخاصة؛ الكتابة، وكتبت هذه القصيدة على لسان طفلة تحت الحصار، بعنوان (حصار وجُوْع)...
بِلا أَنَّةٍ مِنْ مُنَبِّهِ أُمِّي... وَلا صَيْحَةِ الدِّيْكِ في الرَّابِعَةْ
يُفَتِّحُ جَفْني ويأرق جَفْني... وَيَصْرُخُ هَمْسي: أَنَا جَائِعَةْ
أَعُدُّ الثَّوَاني، تَطُولُ الثَّواني... وتلمحني النَّجْمَةُ اللَّامِعَةْ
سَيَمْضِي أَبِي في وهاد الصَّبَاحِ... سَيَمْضِي لِيَسْعَى مِنَ السَّابِعَةْ
وَحِيْنَ يَعُوْدُ بِوَجْهٍ كَئِيْبٍ... يَمِيْلُ الظَّلامُ إِلَى التَّاسِعَةْ
يَعُوْدُ، بدون الرَّغِيْفِ الحَبيبِ... وَلا قِطْعَةِ السُّكَّرِ الرَّائِعَةْ
يَعُوْدُ بدون الحَلِيْبِ الشَّهِيِّ... بدون ابْتِسَامَتِهِ السَّاطِعَةْ
مَضَى يَوْمُهُ في الْتِقَاطِ الأَمَاني... وَفي الطُّرُقَاتِ عَلَى القَارِعَةْ
هُنَا نَبَأٌ عَنْ دُخُوْلِ الطَّحِيْنِ... هُنَا تَكْبُرُ الكِذْبَةُ الشَّائِعَةْ
وَأَبْحَثُ في وَجْهِهِ عَنْ وُعُودٍ... فَتَذْهَلُ نَظْرَتُهُ الضَّائِعَةْ
سَأَكْتُمُ جُوْعِي فَعَيْنُ أَبي... ـ إِذَا مَا بَكَيْتُ ـ هِيَ الدَّامِعَةْ
حملت إليَّ الشهور اللاحقة حدثين متناقضين تماما، فقد رأت طفلتي الثالثة النور، وسميتُها دارين على اسم مدينة العطر في الجزيرة العربية، ورحلت أمي الحبيبة.

معركة إدلب الثانية:
كانت أيام شهر آذار شديدة جداً في عام 2015، ومزدحمة بالقصف الذي كان يأتي من كورنيش مدينتنا المحاصرة، فقد اجتمعت الفصائل المقاتلة وشكلت جيشاً دعوه "جيش الفتح"، وقرروا السيطرة على مدينة إدلب، فبدأ التمهيد بالهجوم على أطراف المدينة حيث الحواجز العسكرية. استمرت هذه الأحداث أسبوعين، وحين جاء هذا يوم 28/آذار فوجئنا بانسحاب الجيش من كل الحواجز المحيطة بالمدينة ومن الأحياء الغربية والجنوبية والشمالية، وبقيت بعض الكتائب في الأحياء الشرقية لتأمين الانسحاب من المربع الأمني باتجاه طريق أريحا وجسر الشغور.
في اللحظة التي أصبحت مناطق المدينة تحت قبضة الكتائب المسلحة بدأ القصف الجوي لأحياء المدينة، ولم يكن أي مدني بمأمن من أذى الطائرات التي كانت تعدنا طوال عقود بالدفاع عن الوطن، وفي الحارة المجاورة سقط صاروخ حاقد، فدمر أحد المنازل، فاندفعَ أبٌ مذعورٌ إلى غرفةِ طِفْلَتِهِ التي كان يناديها: "أميرتي الصغيرة"، كانت ـ وألعابُها ـ وسطَ بَحْرٍ أَحْمَر. لَمَحَتِ الطفلة بعضَ الغضبِ في نَظَراتِهِ. قالتْ راجِيَةً وهيَ تُغالِبُ أنفاسَها: أرجوكَ يا أبي، لا تقلْ لِأُمِّي: "تَبَوَّلَتْ أَميرَتي الصَّغيرَة". تلك الحادثة المرعبة والمؤثرة جعلتني ألجأ إلى صومعتي لتوثيقها، لأنني أؤمن أن الأدب هو أصدق الوثائق، لأنه يحمل من الحيادية مالا تحمله وثائق السياسيين والعسكريين، فكانت هذه القصيدة:
إِذا تَدَاعَتْ لَيْلَتي الأَخِيْرَةْ
وَاهْتَزَّتِ الجُدْرانُ في الحَظيرَةْ
وَدَوَّتِ القَذائِفُ الغَزيرَةْ
تَصُبُّها الطَّيَّارَةُ المُغيرَةْ
إِذَا أَصَمَّ صَوْتُها آفاقَنا
وَحَطَّمَتْ أَحْلامَنا العَسيرَةْ
إِذَا رَأَيْتَ يا أَبي بَحْراً بِوَسْطِ بَيْتِنا
مُحْمَرَّةً أَمْواجُهُ
وَفيهِ صِرْتُ يا أَبي كَأَنَّني جَزيرَةْ
إِذَا رَأَيْتَ لُعْبَتي حَزينَةً
فَلا أَنا ضَمَمْتُها..
وَلا أَنا غَطَّيْتُها في الوَقْعَةِ الخَطيرَة..
إِذَا لَمَحْتَ يا أَبي في الوَجْهِ قُشْعَريرَة
وَفي اليَدَيْنِ رَعْشَةً
وَفي المَآقي دَمْعَةً
وَحَفْنَةً مِنَ التُّرابِ يا أَبي
تُغَلِّفُ الأَهْدابَ وَالضَّفيرَة
إِذَا رَأَيْتَ نَظْرَتي خَجُوْلَةً كَسِيْرَةْ
فَلا تَقُلْ لِجَارَتي وَجَارِنا:
تَبَوَّلَتْ أَميرَتي الصَّغيرَةْ.

الهروب من القلب:
لم يعد البقاء في مدينة إدلب خياراً، فالقصف الجوي أصبح روتيناً يومياً، والقصف المدفعي الآتي من القطع العسكرية التي ما تزال في الجهة الجنوبية خارج المدينة لا يتوقف.
مدينتي الخضراء الوادعة بين السهول في شمال غرب سورية أصبحت ساحة حرب طاحنة، فخرجتُ بعائلتي الصغيرة أبحث عن مأمن، ولم نحمل معنا إلا حقيبة ملابس صغيرة، وبعض كتبي، وحشداً صارخاً من الذكريات، وإرثاً من الرعب ما زال ماكثاً في أعماق نفوسنا المتعبة. كلَّفنا العبور فوق الجبل الوعر الشائك من منطقة (خربة الجوز) ليلة رعب إضافية، تعرضنا فيها لإطلاق النار، وملاحقة الجندرما التركية، وأصيب بعض الهاربين معنا. حينها هممت بالنكوص على عقبي من منتصف الطريق، والعودة إلى مدينتي حيث الرعب والحرب لشدة ما لقينا من متاعب، وتساءلت: لماذا أغلقت تركيا معبر باب الهوى وهي تعلم أن المدنيين سيجازفون كثيراً للوصول إليها؟ لكن الصباح حمل إلينا الدخول بطريقة غير شرعية إلى تركيا.

بدء البحث عن الشَّاعر المُختَطَف:
هكذا رمت بي الحرب لاجئاً في تركيا، لذلك استطعت اللقاء بابن الشاعر، والعديد ممن يعرفونه، كما تمكنت من زيارة إدلب عدة مرات في إجازات العيد، حين كانت الحكومة التركية تسمح للسوريين بزيارة أقاربهم خلف خط الحدود. في البداية، كنت على وشك التوقف عن البحث عن مصير الشاعر، حين أخبرني أحد أصدقائه أنه قتل في مجزرة سجن تدمر الرهيبة التي حدثت بتاريخ 27 يونيو 1980، والتي راح ضحيتها أكثر من ألف سجين سياسي. لكن مصادر أخرى أشارت أن ذلك غير مؤكد.
أحد أصدقائه ـ الذي كان مدرساً سابقاً ـ أخبرني أن الشاعر محمد الإدلبي عمل مدرِّساً قبل تخرجه من كلية التاريخ في جامعة دمشق، وأنه أسس أول مدرسة في قرية صغيرة تابعة لمحافظة إدلب، وأصبح أول مدير لها. زرت تلك القرية لألتقي بطلاب الشاعر، فعثرت على الكثيرين، كانوا يذكرونه بمودة كبيرة، ويعتبرونه صاحب الفضل الأول في تعليم قريتهم. لقد بنى علاقات طيبة مع أهل القرية. أحد كبار السن يتذكر: "كان الأستاذ محمد الإدلبي شاعراً، كتب قصيدة جميلة عن قريتنا". وما زال الكثير من أهل القرية يحفظون تلك القصيدة، وبعضهم يحتفظ بالقصيدة كلوحة مكتوبة ومعلقة على جدران غرفهم.
عثرت على الابن البكر للشاعر محمد الإدلبي في تركيا. قبل ذلك قرأت عنه الكثير، فهو شاعر مثل والده. أخبرني عن اعتقال والده: "في ذلك الصباح من نيسان عام 1979 كنت آخر من استيقظ من بين إخوتي السبعة على مشهد مخيف في منزلنا؛ كانت كتب أبي مبعثرة فوق الأرضية، والفوضى في كل مكان، والأصعب كان الغياب الغامض لأبي وأمي وأختي الصغيرة. حين عادت أمي باكية؛ وهي تحمل أختي الصغيرة علمنا أن قوات الجيش والمخابرات طوقت الحيّ في الليلة الفائتة، واعتقلت أبي، دون أن نستيقظ على ذلك المشهد المرعب".
حين سألت ابن الشاعر عن مصير أبيه، قال: "كنا نظن أن أبي قتل في مجزرة سجن تدمر. بعد ذلك، أثناء دراستي الجامعية، اشتركت بالسكن مع أحد المعتقلين السابقين في سجن تدمر، فأخبرني أن لا أحد من المعتقلين التقى بأبي، لأنهم اعتقلوا بعد المجزرة، ولم يكن أحد شاهداً على القتلى هناك ليعرف أسماءهم، أما أبي فنحن نعرف أنه كان في أحد سجون دمشق أثناء حدوث مجزرة سجن تدمر".
هذا الأمر شجعني على مواصلة البحث. كنت أعلم أنني لن أعثر على الشاعر، لكن ربما أعثر على دلائل تشير إلى مصيره. أردف ابن الشاعر محمد الإدلبي، والذي كان عمره ست سنوات يوم اعتقال والده: "استدعيت كثيراً إلى الفروع الأمنية للتحقيق بكل تفصيل في حياتنا، كنت أجلس أمام المحقق الذي يحمل ملف أبي دون أن أكون قادراً على النظر فيه لمعرفة مصيره، ولم يتعبني في الحياة شيء كما أتعبني ذلك الموقف المكرر؛ أن يفصلني عن معرفة مصير أبي نصف متر، ثم أعجز عن اجتياز تلك المسافة القصيرة مدة أربعين سنة. إنه أغرب سباق يمكن أن يشارك به إنسان؛ ليس فيه سوى متسابق واحد هو أنا، ومراقب واحد هو الزمن."

بين شاعر المدينة المنسية وأوسيب ماندلشتام:
التقيت الابنة الكبرى للشاعر في مدينة إدلب، فهي ما زالت تعيش في منزل العائلة. قالت: "كان أبي شاعراً معروفاً، له مئات القصائد التي حاول فيها انتقاد نظام حافظ الأسد، لذلك تم تصنيفه كمعارض، وأصبح هدفاً للأجهزة الأمنية. كتب في إحدى قصائده:
لله درك من زمان زوّرت … فيه الحقوق وحُكّم الغوغاء
يتشدقون بإسم شعب ثائر … والشعب لو علموا بذاك براء
الغاصبون حقوقه وبزعمهم … قد أنصفوه من الردى وأفاؤوا
المفترون عليه في دعواهم … أن الحياة بغيرهم أرزاء
قد أشعلوا نار العداوة بيننا … وسرت تمزّق شملنا البغضاء".
قلت لها: هذه القصيدة تذكرني بقصيدة الشاعر الروسي أوسيب ماندلشتام الذي كتب قصيدة ينتقد فيها ستالين وحكمه الظالم:
نعيش دون أن نشعر ببلدنا تحت أقدامنا
أصواتنا لا تسمع على بعد عشر خطوات
جَبليّ الكرملين لا بد أن يُذكر
أصابعه الغليظة دهنية مثل الديدان
كلماته فصيحة وثقيلة كعيار الميزان
ومن حوله رعاع من القادة بأعناق نحيلة
وهو يتلاعب بخدمات أنصاف الرجال
بسبب هذه القصيدة، حُكم على ماندلشتام بالسجن، ثم أعدم في سجنه.
علَّقت ابنة الشاعر: "أما أبي الشاعر محمد الإدلبي، فلا نعلم الثمن الذي دفعه لقاء قصائده الحرة، سوى أنه اعتقل، ثم ضاعت حقيقة مصيره حتى هذه اللحظة."

القرية الغافية على ظهر الجبل:
حين زرت إدلب في إجازة عيد 2018، قرَّرْتُ زيارة قرية الشاعر محمد الإدلبي. مع شروق الشمس، انطلقت بالسيارة في الطريق الريفية الصاعدة نحو الجبل. حفسرجة كانت قرية جبلية صغيرة تطل من جهة على سهول إدلب ومن جهة أخرى على الأراضي التركية. في مدخل القرية تقع المدرسة التي عمل فيها سابقاً، وهناك التقيت بشقيقه الأستاذ أحمد، الذي تقاعد من مهنة التعليم منذ سنوات عديدة. هو رجل ما زال يحتفظ بلياقته، ويتميز بابتسامته الهادئة. استقبلني بحفاوة وكرم. منه علمت أن والد الشاعر محمد الإدلبي كان معلما في مسجد القرية، وأنه كان يحذر أبناءه من انتقاد السلطة علناً، أو المشاركة في النشاطات السياسية. كان يخشى عليهم. العديد من أبناء القرية يتذكرون الشاعر محمد، قال أحدهم: "كان الشاعر محمد الإدلبي شخصية هادئة، وكان مثقفاً، حتى أننا كنا ندعوه (دودة كتب)، لأنه لم يكن يخرج من منزله إلا وهو يحمل كتاباً".
في القرية زرت مقبرة العائلة، قال شقيق الشاعر وهو يشير إلى قبر قديم: "أبي مات بعد اعتقال أخي بثلاثة شهور. في لحظاته الأخيرة، كان يردد اسمه". ثم أشار إلى قبر مجاور: "أما أمي، فقد توفيت في شتاء عام 1983، لم تتحقق أمنيتها برؤية ابنها المفقود".
أما أشقاء الشاعر، فأحدهم غادر إلى ليبيا، وأقسم ألا يعود حتى ينتهي حكم حافظ الأسد. لكنه توفي في ليبيا قبل أن يحقق أمنيته. توفي العديد من أشقائه وشقيقاته، وبقي الأستاذ أحمد، وشقيقان في مدينة إدلب.

مقبرة الكتب والحياة العسيرة:
في منزل العائلة، استطعتُ مشاهدة المكتبة التي تركها الشاعر محمد الإدلبي، كانت صغيرة الحجم. سألت ابنة الشاعر: "هل هذه كتب والدك؟" قالت: "لا، هذه الكتب هي ما بقي من المكتبة الحقيقية. كان أولُ فعل قامت به أمي ترحيل الكتب المخبأة في العليّة إلى أحد أصدقاء أبي، ليدفنها تحت تراب بستانه، وهذا الأمر تكرر كثيراً في ذلك الوقت؛ يُعتقل الإنسان، وتدفن مكتبته، أو تحرق من قبل أهله وعائلته، ليس تخلُّصاً من آثاره، بل اتقاءً لشرِّ ضباط المخابرات الذين كانوا يعتقلون أيّ شخص يملك غلاف كتاب من الكتب الممنوعة".
شعرت بالذهول، ربما ستأتي أجيال بعد مئات السنين لتكتشف صدفة تحت تراب مزارع بلدنا؛ إدلب عدداً كبيراً من المكتبات المدفونة، وعندها سيصمت التاريخ خجلاً من تفسير ما حدث. تابعت بعد دقائق من الصمت: "إلا أننا علمنا بعد مدة أن كتب أبي كان مصيرها الاحتراق، لخوف ذلك الشخص من افتضاح أمره".
يتذكر ابن الشاعر: "بعد اعتقال أبي بعشرة شهور، استطعنا زيارته في سجن الحلبوني في دمشق. في ذلك الوقت كنت صغيراً، لكني ما زلت أتذكر الطريق المتعب الطويل للوصول إلى العاصمة. كنت أنا وأمي وإخوتي جميعاً، بالإضافة لجدتي وعدد من أعمامي وعماتي، لكنهم لم يسمحوا إلا بزيارة قصيرة استمرت نصف ساعة، ولم يدخل الجميع". دمعت عيناه، ثم تابع الحديث: "بكت أمي كثيرا، وبكت جدتي. أشقائي الأصغر لم يتعرفوا إلى أبي، ولم يقتربوا منه، أما أنا فلم أغادر حضنه، حتى انتزعني ضابط المخابرات بقسوة، ثم أخذوا أبي، ولم نعرف عنه شيئاً". ابنة الشاعر قالت: "بعد اعتقال والدي أصبحنا مثل (مرضى الجَرَب) حسب تعبير أمي؛ كل من يعرفنا بات يخشى التواصل معنا، خوفاً من التهم المعلبة والجاهزة". تعليقاً على هذه الحالة، قال ابن الشاعر: "أحد أصدقائي في المدرسة كان صريحاً، طلب مني ألا أسلم عليه في الطريق".
حين سألتُ عن مصادر دخل الأسرة بعد اعتقال الشاعر محمد الإدلبي، علمتُ أن زوجته اضطرت للعمل ليلا ونهارا لتستمر في رعاية أسرتها، كافحت مدة 35 سنة بالعمل حتى تحقق حلم زوجها بتعليم أولاده، رغم اعتراض بعض الأقارب.
حدثتني ابنة الشاعر عن قصص الرعب التي مرت بالعائلة: "بعد اعتقال أبي مرت سنوات قاسية، كان الشخص يعتقل لأي وشاية". حدثتني عن شابة نزلت إلى حديقة منزل العائلة عبر الجدار الفاصل بين بيوت الجيران، كانت تبدو بحالة هلع كبير، وقرعت على زجاج نافذة غرفة الجلوس. قالت: "ما زلت أذكر أنها كانت تحمل حذاءها وتركض حافية حتى لا يسمع أحد صوت حركتها. طلبت من أمي أن تسمح لها بالهروب عبر الباب الخلفي للمنزل. أمي لم تتردد لحظة واحدة، ساعدت الشابة في الهروب، وحين قرع رجال المخابرات باب منزلنا بعنف، أنكرت أمي رؤية الشابة".
كانت سنوات رعب كبير، كرست بين الناس مقولة شعبية ما زلت أعتبرها من أسخف ما قيل: (ضع رأسك بين الرؤوس، وقل يا قاطع الرؤوس اقطع رأسي)؛ مقولة تؤسس للهزيمة النفسية والخنوع للظالم حتى لو قطع أعناق الناس. حدثني ابن الشاعر قائلاً: "في أحد الأيام، وقبل اعتقال والدي، رأته أمي وهو يبكي أثناء قراءة أحد الكتب، فسألته عن سبب بكائه، فأخبرها أن الكتاب اسمه (البوابة السوداء)، وهو يتحدث عن تعذيب السجناء في سجون مصر في عهد جمال عبد الناصر الذي أسس للعهود المخابراتية في العالم العربي.
قالت ابنة الشاعر في إحدى زياراتي لمنزل عائلتها: "كان اعتقال أبي نقطة انعطاف في حالتي النفسية، إذ كنت أكثر إخوتي تعلقاً به ومرافقة له، فأصابتني حالة من الرعب الكامن استمرت شهوراً، كنت أستيقظ كل ليلة صارخةً من كابوس مخيف لا أنساه أبداً؛ كنت أرى رجلاً عملاقاً يدحرج نحوي كرة عملاقة بحجم مبنى ضخم".
من محاسن الصُّدف أنني استطعتً زيارة أحد المعتقلين السابقين في مدينة إدلب. كنت أبحث عن أي معلومة تشير إلى مصير الشاعر محمد الإدلبي، فأخبرني أن الشاعر كان يشعر بالكراهية للأنظمة المستبدة، ولم يكن يستطيع إخفاء شعوره. كان معرضاً للمراقبة من قبل الأجهزة الأمنية، وأنهم كلفوا أحد المعلمين لمراقبته. حتى أن ذلك المعلم/الجاسوس كان يرافق الشاعر في كل نشاطاته الأدبية، وأنه ساعده في نقل أثاثه إلى المنزل الجديد. بعد اعتقال الشاعر، تبين أن ذلك المعلم كان جاسوساً يعمل لصالح الأجهزة الأمنية.
تعرضت عائلة الشاعر محمد الإدلبي لضغوط كبيرة، أخبرتني ابنته: "لم ينته الأمر عند اعتقال أبي، بل كان علينا أن ندفع ضرائب إضافية، كان هاتفنا مراقباً من قبل المخابرات، يتنصتون على كل من يتواصل معنا، ووضعوا دكاناً صغيراً مسبق الصنع على الرصيف المواجه لباب منزلنا، يعمل فيه جاسوس/بائعٌ وهمي، تم تكليفه بمراقبتنا؛ كانوا يراقبون أمي في زياراتها، ويراقبون من يأتي لزيارتنا، وفي كثير من الأحيان كان هذا البائع/الجاسوس ينفرد بأحد إخوتي الصغار ليسأله عن أي شخص أتى لزيارتنا أو قرع باب منزلنا.
بعد شهور من اعتقال الشاعر محمد الإدلبي، تم اعتقال شقيق زوجته، وابن أخته، وكلاهما انقطعت أخبارهما. في تلك السنوات، عمل النظام الحاكم على نشر الأزمات الاقتصادية، فأصبح الحصول على الخبز والسَّمن والمناديل والبندورة والموز من أحلام السوريين. كان الناس يقفون بالطوابير طوال الليل للحصول على الخبز. في أحيان كثيرة، عناصر المخابرات كانوا يتجاوزون الطوابير، ويحصلون على الخبز، مع ضرب الناس وإهانتهم.
تتذكر ابنة الشاعر: "بعد ثلاث سنوات من اعتقال أبي فوجئنا برجل مخابرات يطرق بابنا، طلب الدخول لأنه ـ كما قال ـ يحمل لنا أنباء هامة. في غرفة الضيوف التي لم تكن تحوي من الأثاث سوى بضعة كراسي، وطاولات مهلهلة، ارتشف كأس الشاي التي قدمتها أمي، ثم قال: أستطيع أن أؤمن لكم زيارة لزوجك في السجن، لكن ذلك سيكلفكم مبلغاً كبيراً. كانت نظرات أمي التائهة في أرجاء الغرفة كافية ليفهم أننا لا نملك شيئاً من هذا المبلغ، فغادر دون تعليق. فيما بعد علمنا أنه وأمثاله كانوا يستغلون لهفة العائلات إلى معرفة مصير أبنائهم المعتقلين، وأنه حصل على مبالغ طائلة، ثم غاب دون أثر تاركاً العائلات تجتر ألمها بحزن عميق."
استطعتُ اللقاء بعدد من أصدقاء الشاعر المفقود في مدينة إدلب، كانوا جميعاً قد قضوا في سجن تدمر ما بين 18 إلى 25 سنة. لم أرغب في ذكر أسمائهم حتى لا يصل الأذى إلى عائلاتهم أو أقاربهم ممن يعيشون في المدن السورية الأخرى. أحد السجناء يعمل في مستودع أدوية. كان قد خرج من السجن وهو يعاني من فقدان الذاكرة. لاحقاً، عادت ذاكرته، لكنه يشعر بالألم كلما تذكر أيام السجن. قال: "كنت أعرف الشاعر محمد قبل اعتقاله، ولم ألتق به في السجن، كنا نسمع من السجناء أن كل المعتقلين قبلنا قد قتلوا، لكن حين خرجت من السجن علمت أن الشاعر محمد الإدلبي قد يكون حياً، وأنه في أحد السجون في دمشق، رغم ذلك، ليس هناك شيء مؤكد". لم تختلف أقوال بقية المعتقلين السابقين عن هذا الرأي.
في تلك السنوات كثر اللصوص وهم من عناصر وضباط المخابرات، حتى أن أُمَّ الضابطِ الذي كان يدير سجن تدمر العسكري كانت تطلب من عائلات المعتقلين كيلو من الذهب مقابل دقائق يلتقون فيها بأبنائهم من خلف القضبان، وفي غالب الأحوال كانت تلك الزيارات تخلف في نفوس الزائرين آلاماً عميقة لا يمكن شفاؤها بسهولة، فالحال المزرية للسجناء المعذبين في ذلك السجن الرهيب لم تكن ابتساماتهم المؤقتة لتستطيع إخفاءها.
بعد حوادث الثمانينيات ومجزرة حماه أصبحت القبضة الأمنية محكمة في البلد؛ في المدارس والمصانع والشركات والمراكز الثقافية، أي شاعر أو كاتب، يجب أن يجتاز الموافقة الأمنية ليتمكن من اعتلاء المنبر، والمشرفين على الثقافة هم أعضاء في الحزب الحاكم، بغض النظر عن إمكاناتهم الثقافية. أخبرني الابن البكر للشاعر محمد الإدلبي: "في المدرسة تعرَّضتُ وإخوتي للكثير من المعاملة السيئة، كان هناك سببان لذلك؛ الأول هو خوف الناس من إبداء أي تعاطف مع عائلات المعتقلين وأطفالهم لأن تلك جريمة قد تقتل صاحبها، والسبب الثاني وجود بعض النفوس القاسية التي استفادت من ذلك الوضع الفاسد".
في عام 1982 تعرضت مدينة إدلب لحملة تفتيش أمنية كبيرة، حيث هبطت مروحيات الجيش في الملعب البلدي، وانتشرت المدرعات والعساكر في كل مكان، وتم إعلان حالة الطوارئ ومنع التجول. استمر التفتيش يوماً كاملاً، وتمت ملاحقة المطلوبين. ابن الشاعر يتذكر: "في ذلك اليوم، دفعني الفضول للصعود إلى سطح المنزل، حاولتُ التلصص من ثقب في جدار سور السطح. ذلك المشهد لا أنساه؛ كان عناصر الجيش يلاحقون شابّاً، وتمكنوا من قتله قريباً من منزلنا. شعرتُ بالرعب الكبير، ونزلت عن السطح بخوف كبير".
أحد أصدقاء ابن الشارع هو الدكتور ناصر الذي كان يدرس في كلية طب الأسنان في جامعة حلب، واعتقل في السنة الأولى، ثم خرج من السجن بعد عشر سنوات. حدثني عن الفترة التي تَشَارك بها السكن مع ابن الشاعر محمد الإدلبي. قال: "لم أكن أعرف الشاعر محمد، لكنني سمعت الكثير عنه، ولم ألتق به في سجن تدمر، كنت أظن أنه مقتول، وأخبرت ابنه عن الأمر، لكنه لم يتقبل خبر مقتل والده. قصة انقطاع أخباره أثَرت على العائلة".
ابن الشاعر يقول: "بعد تخرجي من الجامعة حاولت السفر لأحصل على اختصاص في مهنتي الطبية، وأتممت كل الخطوات اللازمة لذلك، وفي مطار حلب الدولي، فوجئت بمنع سفر من قبل المخابرات الجوية بسبب قضية أبي التي مضت عليها عشرات السنين".
في السوق، أشار أحد أصدقاء الشاعر المفقود إلى لوحة عليها العبارة التالية: (الطبيب عمار...)، وهو طبيب مختص بالتحليل المخبري. أخبرني أن هذا الطبيب لم يؤهله مجموعه في الثانوية لدخول كلية الطب، لكنه كان أحد عناصر الوحدات الخاصة التابعة لرفعت الأسد شقيق حافظ الأسد، والتي كانت تشارك في الاعتقال والمداهمة والقتل، وأنه تخرَّج في دورة تدريبية للمظليين اسمها (دورة ألماظة خليل)، على اسم إحدى عميلات المخابرات في ذلك الوقت، والتي قُتلت بحادثة عرضية أثناء قفزها بالمظلة، حيث كان النظام القمعي يكافئ كل عضو في فرق المظليين بالتسجيل في أي فرع جامعي، حتى لو كانت درجاته لا تؤهله لذلك. ذلك الأمر أثَّر على طلاب الجامعة، وخسر الكثير من المتفوقين فرصتهم. المفارقة - التي علمتُ بها لاحقاً - أن ذلك الطبيب المظلي (عمَّار...) قد أصبح الآن من قادة المنظمات العاملة على ضفة الثورة، بعد أن كان جاسوساً للمخابرات طوال عقود، وهو أمر نجده كثيراً في صفوف العاملين في الفصائل والمنظمات، فهم في الغالب عملاء مندسون في تلك البنى المستحدثة لصالح أجهزة المخابرات، ويستطيعون التحكم بمسار أي شيء في الثورة عن طريق المال الغامض.
وعودٌ إلى الثمانينيات من القرن الماضي، حيث كان عناصر فرقة المظليين ينشرون الرعب بين الناس، لأن الحكومة سمحت لهم بقتل أي إنسان، وقد حدثت الكثير من الجرائم في تلك الفترة. تتذكر ابنة الشاعر إحدى تلك الحوادث: "جيراننا كان لديهم طفلة في الصف الثاني الابتدائي. خال الطفلة عضو في فرقة المظليين، وكان يحمل مسدسه ويتباهى به، وقد أشار بالمسدس إلى ابنة اخته، فخرجت رصاصة بالخطأ، واخترقت رأس الطفلة. لا أنسى تلك المأساة طوال عمري".
عَلَّقَ ابن الشاعر على الأمر: "كانت الأجهزة الأمنية تتفانى في محاولة سحق أي خطوة لنا في الحياة، كنا نُستدعى للتحقيق إن تقدمنا للحصول على وظيفة، أو إن أجرينا أي معاملة في دوائر الحكومة، وفي كل مرة أقف فيها أمام المحقق كان يفتح ملفاً ويقرأ فيه، ثم ينظر إليَّ بعين ماكرة قائلاً: هل كان أبوك شاعراً؟
أنا: نعم.
المحقق: أين هو الآن؟
فأجيبه: أنتم اعتقلتموه ولا أعرف عنه شيئاً.
فيسأل بمكر: هل هو حي أم ميت؟
فأجيب: لا أعرف.
تلك الأسئلة تكررت في كل عملية استدعاء، وفي كل مرة كنت أعرف أن الملف الذي يحمله المحقق فيه مصير أبي الذي لا نعرف عنه شيئاً، وكان يفصلني فقط نصف متر عن ذلك الملف، ولم أتمكن من النظر فيه لأعرف مصير أبي في سباق لاهث خلف حقيقة مؤلمة كيفما كانت".

أخبار جديدة عن مصير الشاعر محمد الإدلبي:
في عام 2006 حدث أمر غريب. خالد، وهو أحد أصدقاء ابن الشاعر محمد الإدلبي، كان يعمل في مجال صيانة الأجهزة الطبية، وأخبر عائلة الشاعر أن لديه خبراً مؤكداً عن والدهم. حدَّثني ابن الشاعر عن ذلك الأمر، لكن أردت معرفة الموضوع من الشاهد الحقيقي، فحصلت على رقم خالد، ورتبت للقائه في عصر أحد الأيام في مكان عمله في الطابق الثالث من مبنى وسط السوق. حدثني خالد أنه في عام 2006 التقى بطبيب مختص بأمراض الأعصاب، وكان الطبيب قد خرج من سجن صيدنايا قبل مدة قصيرة، وأخبره أن الشاعر محمد الإدلبي كان حياً، لكنه في زنزانة مع مجموعة من السجناء السياسيين الذين لا يسمح لأحد بالحديث معهم، وحدَّثه الطبيب أن الشاعر محمد الإدلبي قد كتب عدة دواوين شعرية في السجن. تلك الحادثة أشعلت الحياة في القضية القديمة، وزادت من معاناة الانتظار التي عاشتها عائلة الشاعر المفقود، لكن الأمر توقف عند هذا الحد، فطبيب أمراض الأعصاب اختفى في ظروف غامضة قبل أن يتمكن أحد من عائلة الشاعر من لقائه.
يقول ابن الشاعر: "شعورنا بالسحل النفسي الذي عبرتْ خلالَه سنوات طفولتنا وشبابنا كان دافعاً لإخواني الذكور الثلاثة للسفر خارج البلاد قبل أن توضع أسماؤهم على قوائم الممنوعين من السفر، وكان هذا مأساة إضافية لأمي".
قالت ابنة الشاعر حين سألتُها عن والدتها: "رحلت أمي عن هذا العالم البائس سنة 2013 قبل أن ترى اكتمال مشهد الدمار، الذي كلَّفنا وطناً لم نعد نرى عودته، وقبل أن تحقق أمنيتها الوحيدة؛ اجتماع أولادها تحت سقف واحد." في إحدى زياراتي القصيرة فتحت ابنة الشاعر خزانة والدها، وأخرجت رزمة من الأوراق والصور القديمة، قالت: "هذه أوراق أبي وبعض قصائده". بحثتُ في الرزمة، فوجدت مجموعة من المناديل الرقيقة. كانت مناديل قديمة مكتوب فيها رسائل بخط جميل، لكنها بحالة جيدة بسبب الاحتفاظ بها بين صفحات الكتب. أخبرتني ابنة الشاعر أن والدها - في الشهور الأولى من اعتقاله - كان يرسل رسائله السرية المكتوبة على المناديل في طيَّات ملابسه، مع رسالة علنية على ورق عادي، لكنَّ خبر تلك الرسائل وصل إلى الأجهزة الأمنية بسبب وشاية أحد الأقارب الذي يعمل في المخابرات، فتوقفت المراسلات بعد ذلك. فتحتُ أحد المناديل، شعرتُ برهبة كبيرة، كان خطُّ الشاعر جميلاً، وكانت الرسالة تتحدث عن السجن، وفيها قصيدة عبَّر فيها الشاعر محمد الإدلبي عن محبته لأسرته، وأمله بالعودة. سألت ابن الشاعر عن ميراث أبيه الشعري، فأخبرني أنه يملك بعض كتبه الشعرية التي كتبها بخط يده.

القلق في قصائد الشاعر المُختَطَف:
بعد تلك الرحلة الطويلة من البحث، والتي استغرقت مني ما يزيد عن السنتين، لم أعثر عن حقيقة مصير الشاعر المفقود محمد الإدلبي، وربما لن يعرف أحد مصيره، فالدمار المتراكم أخفى آثار الجرائم السابقة، والضحايا الذين يسقطون يومياً منذ أحد عشر عاماً، ازدحمت أسماؤهم فغابت أسماء الضحايا السابقين. صحيح أنني لم أستطع لقاء الشاعر المفقود محمد الإدلبي، لكنني التقيت به في رسائله المكتوبة على المناديل الورقية، وما زلتُ أسمع صوته يخرج من أعماق قصائده باحثاً عن خلاصه من عذابات الحياة، كهذه القصيدة التي عثرت عليها بين أوراقه القديمة:
"البَحْرُ مُمْتَدٌّ وَيُغْرِيني بِرِحْلَةِ سِنْدِبَادِ
لِلْعَالَمِ الغَافي عَلَى جُنْحٍ كَلَيْلَةِ شَهْرَزَادِ
لِمَدَائِنٍ لا مِثْلها إِرَمٌ وَلا ذَاتُ العِمَادِ
لا جَوُّها كَدِرٌ، وَلا يَجْري بِهَا نَهْرُ الرَّمَادِ
لِجَزِيْرَةٍ لَمَّا تُدَنَّسُ بِالْخَطِيْئَةِ وَالْفَسَادِ
* * *
لِبِلَادِ آدَمَ حَيْثُ لَمْ يُخْطِئْ، وَلَمْ يَعْصِ الإِلَهْ
حَيْثُ الْفَتَى قَابِيْلُ لَمْ يُخْلَقْ، وَلَمْ يَقْتُلْ أَخَاهْ
لِمَدِيْنَةٍ أُخْرَى، فَإِنِّي قَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاهْ
في عَالَمٍ.. المَرْءُ مَأْخُوْذٌ بِلَا ذَنْبٍ جَنَاهْ
سَقَطَتْ مَوَازِيْنُ العَدَالَةِ مِنْ سَمَاهُ عَلَى ثَرَاهْ
* * *
العَالَمُ المَمْقُوْتُ يَسْبَحُ في بِحَارٍ مِنْ صَدِيْدِ
وَيَعِيْشُ في دُنْيا التَّمَزُّقِ بَيْنَ أَكْوَامِ الحَدِيْدِ
وَيَجُرُّ أَوْحَالَ السِّنِيْن لِكَهْفِهِ النَّتِنِ البَعِيْدِ
وَخِلَالَ أَمْوَاجِ الدُّخَانِ، وَخَلْفَ صَيْحَاتِ الوَعِيْدِ
كَالْآلَةِ الصَّمَّاء يُخْلَقُ ثُمَّ يَفْنَى مِنْ جَدِيْدِ
* * *
في عَالَمٍ حَفَّتْ بِهِ الظُّلُمَاْتُ مِنْ جَنَبَاتِهِ
في عَالَمٍ أَضْحَى بَنُو الإِنْسَانِ مِنْ آلاتِهِ
وَغَدَوْا عَبِيْدَ جَمَادِهِ..
وَغَدَوْا كَبَعْضِ حَصَاتِهِ".
هذه القصيدة أثَّرت بي، ودفعتني لأنظر إلى بلدي التي أصبحت كأنها مَدَاءاتٌ لاِغْتِرابِ اللُّحُوْن، فكتبت هذه القصيدة:
عِنْدَما آذَنَتْ بِهَجري السَّحابُ
أَطْفَأَ البَرْقَ في مَدَاْيَ اغْتِرَاْبُ
نَضَحَ العُمْرُ جَدْوَلاً مِنْ رَحِيْلٍ
قَلَقُ السِّنْدِبَاْدِ فِيْهِ العُبابُ
صارَ دَرْبي سفينةً مِنْ ضَياعٍ
نَوْحُها: "نُوْحُ"، والخِضَمُّ ارْتِقابُ
والمواعيدُ لانْتِظارِيَ خَجْلَى؟
وَالسَّماواتُ شَمْسُها الاِرْتِيابُ؟
يَخْتَبِي اللَّيْلُ في عُيوني، فَأَبْكي
فَإِذا الدَّمْعُ نَجْمَةٌ وَانْسِيابُ
لَوَّنَتْ لَوْحَتي مَواويلُ حُزْني
وَعَلَيْها مِنَ الشُّجُونِ خُضَابُ
أَيْنَ مِنِّي النَّدَى؟ وَكُلِّي قِفارٌ
جَفَّفَتْها مَصارِعٌ وَاحْتِرابُ
كُلُّ كَأَسٍ سَكَبْتُ فِيْهِ شَبابي
حُطِمَ الكَأْسُ، أَوْ تَوارَى الشَّبابُ
لا تَلُمْني إِذَا انْطَفَأْتُ حَنيناً
وَحَناناً، وَتاهَ مِنِّي الجَوابُ
فَأَنا لَحْظَةُ انْكِسارِ الحَكايا
حَقْلُ عُمْري حَصائِدٌ وَيَبابُ
وَأَنا في الْمَحْبِسَيْنِ؛ حِبْري وَصَبْري
"خَفِّفِ الوَطْءَ"، فَالمَنايا انْسِكابُ
يا صَديقي عَويلُنا يَمْلأُ الأَرْضَ،
فَأَيْنَ انْتِحابُهُمْ وَالخرابُ؟
زَمَّلَتْني مَدَائِني ـ ذَاتَ قَحْطٍ ـ
حيْنَ أَرْخَى عَلَى القُلوبِ الضَّبابُ
حيْنَ أَمْسَى مَعِيْنُها العَذْبُ غَوْراً
فَاسْتَفاقَتْ سُيُوْفُها، وَالعَذابُ
أَيّ دَرْبٍ سَيَسْتَقِلُّ شَبابي
وَأَنا فَاتَني هُناكَ الشَّبابُ
لا تَسَلْني: هَلِ ادَّخَرْتُ حَدِيثاً؟
فَلِساني مَآذِنٌ وَقِبابُ
أَخْبَرَتْني أَنَّ المسَاجِدَ ثَكْلَى
قَدْ عَرَاها مِنَ النَّجيعِ إِهابُ
صِرْتُ داوودَ، وَالنِّعاجُ كُلومٌ
أَثْبَتَتْني، وعَزَّ فيها الخِطابُ
صَرْخَةٌ أُنْثَوِيَّةٌ مَزَّقَتْني
وَرَقاتٍ، إِذِ العَفافُ كِتابُ
سَاءَلَتْني زَنُوْبِيَاْ عَنْ بَوَادٍ
عَمَّرَتْها: أَثَمَّ سورٌ وَبابُ؟
ثُمَّ مَالَتْ إِلَى الدُّموعِ لأَنِّي
قُلْتُ: سَلْوَى، وَباضَ فيها الغُرابُ
كَمْ سَرَابٍ أَقَامَ فِيَّ صُرُوحاً
مِنْ سَرَابٍ، يَفيضُ مِنْها السَّرَابُ
ما لِعُودي أَوْتَارُهُ شارِداتٌ؟
لَحْنُهُ التِّيهُ، وَالأَغاني غِيابُ!
صاحِ، دَعْني إِذا أَطَلْتُ عِتابي
رُبَّما أَنْبَتَ الرَّجاءَ عِتابُ
أَقْرَأُ الدَّهْرَ أُمْنِياتٍ عَذَارَى
فَإِذا الهَجْرُ في الأَماني إِيابُ
وَإِذا الأَرْضُ كَالنَّهارِ اخْضِراراً
رَصَّعَ البَدْرُ ـ لَيْلَها ـ وَالْحُبَاْبُ
مَوْطِني أَنْتَ هاطِلٌ مِنْ لُحُوْنٍ
هَنْدَسَتْهُ ـ لِلنَّاهِلينَ ـ الرَّبابُ
مَوْطِني أَنْتَ سِدْرَةٌ مِنْ ضِياءٍ
يَتَدَلَّى عَلَى ثَراها الشِّهابُ
فَإِذا جِئْتَ نايَةً في السَّواقي
رَقَصَ الوَرْدُ، فَاسْتَفاق التُّرابُ

عذاب المدينة المنسية و خاتمة بحثٍ مفتوحة:
مصير الشاعر محمد الإدلبي يشبه مصير الثورة السورية الذبيحة والمختطفة؛ التي ذبحتها معاول الجيش السوري وشَبِّيحَتُهُ، واختطفتها الفصائل والمنظَّمات التي تتحكم بمصير (الكانتون) المغلق والمحاصر؛ محافظة إدلب، ففي تلك البقعة التي تضاءلت بالخداع السياسي والصفقات الرخيصة للدول الإقليمية والمحتلة، يتحكم أفراد قلائل مأجورون لأجندات خارجية - ولا يزيد عددهم عن عدد أصابع اليدين - بأكثر من أربعة ملايين نازح ومشرد وفقير، أولهم الجولاني زعيم جبهة المصرة الإرهابية، والمجهول النسب، فلا يعلم أحد اسمه الحقيق، ولا مِنْ أينَ أتى، والذي يستعبد الناس متخذاً من الدين ستاراً له. بينما يتولى قيادة فصائل أخرى أشخاص مجرمون وإرهابيون كان أحدهم مصلح هواتف محمولة، وآخر كان يعمل في صيانة الغسالات، وبعضهم كانوا أصحاب رتب متدنية في الجيش قبل انشقاقهم عنه، والآن يقودون عصاباتهم المسلحة للسلب والنهب والقتل الكيدي، والتي سببت شعور الناس باليأس والإحباط لضياع الثورة ودماء مئات آلاف الضحايا.
أخيراً بقيت خطوة لا بد منها في البحث عن مصير الشاعر محمد الإدلبي المفقود؛ إنها خطوة البحث في ملفات منظمات حقوق الإنسان، حيث عثرتُ على ذكر الشاعر محمد في تقرير عن انتهاكات حقوق الإنسان في سوریا لعام 2010، من إعداد جمعية تركية في إسطنبول هي (مظلوم در- MAZLUMDER İSTANBUL ŞUBESİ) لحقوق الإنسان والتضامن مع المظلومين. التقرير وضع اسم الشاعر تحت الرقم 140، وذكرَ أنه معلم، من قرية حفسرجة التابعة لمحافظة إدلب، وأنه مفقود منذ عام 1979، كما عثرتُ على اسمه مكتوباً في قائمة (بطاقة مفقود) في مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية ـ المملكة المتحدة ـ لندن، ومكتوب أن تهمته معاداة الدولة، وعثرتُ على اسمه في موقع (اللجنة السورية لحقوق الإنسان)، في قائمة المفقودين.

ملحق:
الباحث / كاتب المقال: طبيب وشاعر من مدينة إدلب (المدينة المنسية)، والقصائد في النص بعضها للشاعر المختطف محمد الإدلبي موضوع البحث أو للكاتب مصطفى عبد الفتاح كاتب المقال.