Show Menu
True Story Award 2024

تحقيق.. شبح الجوع والهجرة يخيم على القرى المغربية

رابط المقال على الموقع:
http://bayanealyaoume.press.ma/%d8%b4%d8%a8%d8%ad-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%88%d8%b9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%87%d8%ac%d8%b1%d8%a9-%d9%8a%d8%ae%d9%8a%d9%85-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b1%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ba%d8%b1/.html

رابط المقال على الجريدة بصيغة PDF:
https://drive.google.com/file/d/12JfoW9l6GCXVUFYAhkD7DkUAdUPzSkvZ/view?usp=drive_link

في البدء كان الماء؛ في البدء كان الماء، وعلى مر التاريخ شكل الماء، ولا يزال، رمزا للحياة، وارتبط بقيام الحضارات على جانبي النهر الذي مثل ملجأ للإنسان يأوي إليه بعد وحشة الكهوف، فالماء الذي يحيي الأرض ويسهم في إثمارها في إمكانه المشاركة في إحياء كل شيء، حيث إن الأساطير والأديان والميتولوجيات تحكي لنا عن اشتياق أرض بور إلى قطرة ماء تبعث فيها الحياة من جديد وتؤهلها للمهمة التي خلقت من أجلها، لذا فإن انحباس المطر وسيطرة الجفاف يقود إلى موت الحياة في البشر والشجر والبقر، إنها حكاية معاناة الإنسان مع إكسير الحياة أي الماء، فكيف تبدأ الحكاية ؟ تبدأ حكايتنا بصورتين تراجيديتين تفصل بينهما آلاف الأميال من حيث التموقع الجغرافي؛ إلا أن موضوعهما واحد، وهو حقيقة واحدة تجمع مئات المعنيين بها، تبدأ خيوطها من الصورة الأولى حيث لم تعد هناك إلا تشققات وتصدعات للتربة وأحجار ملساء تحكي قصة نهر لم يتوقف مجراه لقرون خلت، وسكان أصبحوا يرهنون مصيرهم للطبيعة، ولأفراد عائلاتهم المتواجدين حيث الصورة الأخرى التي تعكس ألوانها قسوة الحياة والتشتت وقمة اليأس والاختيار الأوحد المحفوف بالمغامرة والمخاطرة، بل صورة يظهر فيها أحيانا كثيرة شبح المجهول والموت القادم من الغرب.
جف مجرى نهر أم الربيع عن آخره، على مستوى بني عمير وبني موسى، إقليم الفقيه بنصالح، وجفت معه آمال سكان البوادي المجاورة والفاعلين بالقطاع الفلاحي، كما هو الحال بأغلب البوادي المغربية، حيث يخيم عليها شبح الجفاف وندرة المياه، ليشد المئات من أهلها الرحال نحو ضواحي المدينة أو خارج أرض الوطن دون التفكير في النتائج أو المخاطر. عندما نعود إلى أصل الحكاية نجدها تبدأ عندما بدأت الفئة المتوسطة والفقيرة بالمغرب، تستعيد جزءا من قواها مع بداية تخفيف قيود الإجراءات الصحية، التي تم فرضها لشهور عدة، نتيجة تفشي فيروس كوفيد 19، وتستبشر خيرا مع موسم فلاحي خصب 2020-2021، حتى توالت الضربات، بداية مع موسم فلاحي جد جاف زادت من حدة أثاره اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فأصبحت هذه الفئة في مواجهة مباشرة مع الارتفاعات غير المبررة والمعقولة في أسعار كل حاجياتها الأساسية منها وأيضا الثانوية. توالت الأزمات على هذه الفئات التي تعد صمام أمان المجتمعات، أعاد ظاهرة الهجرة من القرى نحو ضواحي المدن أو خارج أرض الوطن إلى الواجهة، حيث إن الجفاف والغلاء دفع سكان القرى إلى التخلي مضطرين عن مشاريعهم الفلاحية بسبب الإفلاس، والهجرة للبحث عن مورد رزق آخر. لقد ولدت حدة الظواهر الطبيعية الشديدة المرتبطة بتغير المناخ، مثل التصحر، وندرة الموارد المائية، وتملح الأراضي الزراعية والفيضانات، من بين أمور أخرى، والتي تضاعف عددها ثلاث مرات خلال الثلاثين سنة الماضية، في كثير من الأحيان عواقب وخيمة على المجتمعات الضعيفة، اضطرت معها إلى اختيار الهجرة كوسيلة للبقاء. كما أن وجود محددات اقتصادية وديموغرافية واجتماعية وسياسية أخرى يجعل تحليل ظاهرة الهجرة العالمية الحالية أكثر تعقيدا وتحديد علاقة السبب والنتيجة بين مطرقة تغير المناخ وسندان الهجرة. هنا نقف لنتساءل؛ هل فعلا تعتبر الهجرة من القرى نتيجة حتمية مرتبطة بالجفاف والتغيرات المناخية، أم ترتبط بالسياسة الفلاحية المتبعة؟ ما مصير أولئك الذين ركبوا الأخطار للوصول إلى الوجهة التي يرون فيها نجاتهم سواء كانت بضواحي المدن أو خارج الوطن؟ هل هناك حقوق تم تأمينها للفلاحين الذين تشبثوا بأراضيهم رغم الجفاف والأزمات؟ هل لدينا رؤية واضحة لتدبير الأزمات القادمة؟ بناء على هذا الاستطلاع الأولي بدا لنا أن التوغل في أعماق الظاهرة يتسع بشكل متزايد ويطرح إشكالات متشابكة حول الجفاف والقرية والهجرة والفلاح والمدينة والسياسات الفلاحية، لذا كان لزاما وضع فرضيات هي كالتالي: < نفترض أن السبب الرئيسي للهجرة من القرى هو ندرة المياه نتيجة توالي سنوات الجفاف؛ < تشكل السياسات الفلاحية المعتمدة منذ سنوات أحد الأسباب المباشرة للهجرة الداخلية والخارجية؛ < الهجرة الداخلية والخارجية إحدى تمظهرات تحالف الجفاف والسياسات الفلاحية؛ وللتحقق من هذه الفرضيات التي بنيناها من خلال الملاحظات الأولية، أجرينا تحقيقا بجريدة بيان اليوم على مدى شهرين بين البحث الأولي (تجميع الوثائق والمعطيات وتحليلها) وتحديد مجال البحث والعينة المستهدفة، ثم النزول للميدان في مرحلة ثانية اعتمادا على تقنية سير الحياة والمقابلة الموجهة وتحليل الوثائق، حيث تم خلال هذه المرحلة قطع آلاف الأميال (منها قرابة 1442 كلم داخل التراب الوطني أغلبها على مستوى جهة بني ملال خنيفرة والتي اتخذناها مجالا للتحقيق في الموضوع لضمها أكبر سهل فلاحي على المستوى الوطني؛ ومن هناك إلى الجارة الشمالية إسبانيا التي تمثل وجهة رئيسية يقصدها المهاجرون من أراضيهم بغية البحث عن الفردوس المفقود في أرضهم (40 كلم بحرا نحو الجارة الشمالية و1258,8 كلم برا على مستوى التراب الإسباني ثم 1320 كلم جوا عودة نحو الوطن).
ولا بد من الإشارة إلى أنه تم العمل، طيلة فترة الاشتغال في التحقيق، على التواصل مع مؤسسات رسمية مركزية للحصول على معطيات دقيقة وأجوبة عن عدد من التساؤلات العالقة، إلا أن وزارة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة إلى جانب المندوبية السامية للتخطيط كانتا المؤسستان الوحيدتان اللتان تجاوبتا معنا بشكل إيجابي وقدمتا لنا ما هو متوفر لديهما، في حين تعذر الوصول إلى معطيات وإجابات من مؤسسات أخرى رغم توصلها بالطلب والأسئلة، خاصة وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، وكذا وزارة التجهيز والماء، رغم تربعهما على قائمة المسؤولية فيما يرتبط بموضوعنا؛ فيما كان التواصل على المستوى اللامركزي إيجابيا، حيث فتح كل من رئيس الغرفة الفلاحية لجهة بني ملال خنيفرة محمد رياض، ومدير المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي لتادلة والمدير الجهوي للفلاحة لجهة بني ملال خنيفرة سعيد أقريال، أبوابهما أمام كل تساؤلات الجريدة.

سنوات الجفاف والسياسة المائية تتحالفان ضد الفلاح المغربي
في جولتنا التفقدية لمجال التحقيق (جهة بني ملال خنيفرة) نقف على حجم المعاناة، حيث الوجوه الشاحبة، وفقدان الأمل؛ أراضي جرداء هنا وعشب مصفر هناك، ومجاري مياه السقي جافة عن آخرها تعبر من هنا وهناك عبر أراض شاسعة؛ صور متفرقة لمحاولات إحداث ثقوب عميقة (آبار) بحثا عن الماء، ليس بعيدا عن أخرى جافة بعمق يتجاوز المائتي متر؛ أبواب موصدة لتعاونيات تجميع الحليب وكذلك معاصر زيت الزيتون، وعشرات البيوت السكنية الفارغة وأخرى لم يعد يعمرها إلا الآباء والأمهات والأجداد والجدات…؛ هذا هو المشهد العام على مستوى جهة بني ملال خنيفرة، التي كانت إلى زمن قريب بمثابة المخزون الاستراتيجي لبلادنا للعديد من الخضر والفواكه والحبوب ثم مصدرا للزيت والزيتون ذو الجودة الأولى على المستوى الوطني. وتشير الأرقام الرسمية الحديثة التي تمكنت بيان اليوم من الحصول عليها، إلى تزايد العجز المائي على مستوى الجهة، التي تضم أكبر سهل فلاحي على المستوى الوطني (سهل تادلا) بشكل مقلق خلال السنوات الأخيرة. وأصبحت تعيش الجهة، التي تبلغ مساحتها الإجمالية 2811000 هكتار، منها 960000 هكتار صالحة للزراعة (17005 هكتار فقط مستغلة فلاحيا)، حسب الإحصائيات الرسمية التي تحصلنا عليها، (تعيش) خلال السنوات الأخير على وقع تردي كبير ومتواصل لحقينة السدود ومقاييس التساقطات المطرية، إضافة إلى القطع التدريجي لمياه السقي، ثم جفاف مياه الآبار والأنهار.
أرقام مخيفة لسنوات عجاف
هنا تقف “بيان اليوم” أمام المشهد الأكثر رعبا في زياراتها الميدانية لمعاينة الأوضاع على مستوى الجهة التي تم اختيارها مجالا للتحقيق لضمها أكبر سهل فلاحي بالمغرب، هو الجفاف الكلي للمجرى الرئيسي لنهر أم الربيع على مستوى منطقتي بني موسى* وبني عمير*.
النهر الذي يتربع من حيث الطول والمياه المصرفة، في الرتبة الثانية على المستوى الوطني، ينبع من سلسلة جبال الأطلس المتوسط ويتجه غربا ليصب في المحيط الأطلسي عند مدينة آزمور الماثلة على ضفته اليسرى، على طول 555 كم، والذي كان يصل معدل تصريفه للمياه إلى 117 متر مكعب في الثانية (م³/ث)، ولم يشهد التاريخ عن جفافه يوما، لم يتبقى منه اليوم إلا تشققات وتصدعات التربة الجانبية الناتجة عن الجفاف التام للمياه والصخور الملساء التي كانت تشكل عمق النهر؛ كآثار لتدفقات النهر الغزيرة يوما. في صورة أخرى ليست أقل رعبا من الأولى، عاينت بيان اليوم تراجعا كبيرا لتدفقات شلالات أوزود ومجاري الوديان المجاورة لها، بل إن بعضها جف بدوره؛ وفي منطقة بين الويدان أيضا تم الوقوف على تراجع مفزع لمنسوب مياه حوض سد بين الويدان، الذي يرتبط بنهر أحنصال ووادي العبيد.
في هذا السياق، أكد الشوقي المنصوري، عامل فلاحي بضيعة على مستوى منطقة أولاد زهرة، جماعة أولاد زمام، إقليم الفقيه بنصالح، أن بوادر الجفاف الأولى بالمنطقة بدأت قبل 5 سنوات مع الشروع في قطع المياه عن السواقي المخصصة للسقي الفلاحي. وشدد الشوقي، على أن ما زاد الطين بلة هو قرار تشديد مساطر تسليم رخص حفر الآبار التي تقابل غالبا بالرفض، إضافة إلى جفاف الآبار القديمة. على مستوى الضيعة التي يشتغل فيها الشوقي، والتي تعود لملكية مهاجر مغربي بإسبانيا، يوجد بئر قديم شبه جاف على عمق 88 مترا، يضخ الماء لنصف ساعة ثم يتوقف لثلاث ساعات ويعود للضخ من جديد، حيث يتم تجميع المياه بهذا الشكل لسقي الزيتون في محاولة لإنقاذه لأجل مواسم الإنتاج القادمة، كما أوضح العامل الفلاحي نفسه. بدوره أبرز الفلاح والكساب مرزوك الحسين، بمنطقة أولاد رحو، بالجماعة والإقليم نفسهما، أنهم فيما مضى كانوا يعتمدون على آبار لا يتعدى عمقها 15 مترا تضخ المياه بدون انقطاع، مشددا على أنه بشكل شخصي كان يسقي فيما مضى أرضه كل أسبوع لمدة ست ساعات “بالبيرنار” على بعد 5 أمتار فقط، إلى أن بدأ منسوب المياه يتراجع، بسبب تراجع التساقطات المطرية؛ ثم بعدها بدأ العمل ببئر “الصوندا” على غرار باقي سكان المنطقة، الذي وصل عمقه إلى 30 مترا، لكن بعدها جف من الماء، ثم حفر بئرا ثالثا بعمق 60 مترا جف بدوره من الماء. وأكد الحسين، بخيبة أمل بادية للعيان عن التقهقر التدريجي لأوضاع المياه نحو الحضيض بالمنطقة، أنه تم قطع مياه السقي على الفلاحين دون طرح أي بدائل في ظل جفاف الآبار والأنهار وشح التساقطات المطرية. وتشير الأرقام التي حصلت عليها بيان اليوم، من مصدر رسمي خاص، الواقع الظاهر للعيان، وروايات الفلاحين المعنيين، حيث تظهر تراجعا مهولا في حجم التساقطات المطرية وحقينة السدود على مستوى الجهة التي يبلغ عدد سكانها بالقرى 1282000 نسمة؛ فعلى مستوى المدار السقوي لتادلة، تراجعت التساقطات المطرية من 529 ملم سنة 2009 إلى 151 ملم سنة 2022 وهي نسبة لم تعرفها المنطقة طيلة العقود الستة الماضية حسب الإحصائية الرسمية الموضحة في المبيان المرفق.
بدورها تراجعت حقينة السدود بالجهة التي تتميز بتربية المواشي والأبقار حيث تكشف الإحصائيات الرسمية عن 378100 من الأبقار و2927220 من الأغنام ثم 890000 من الماعز؛ وتؤكد الأرقام التي حصلت عليها بيان اليوم عبر مصادر رسمية خاصة ما بسطناه آنفا بشأن أوضاع الأنهار والوديان والسدود بالمنطقة، حيث إن حقينة سد بين الويدان تراجعت من 993 مليون متر مكعب في موسم 2010-2011 إلى 115 مليون متر مكعب فقط في موسم 2022-2023، فيما تراجعت واردات السد نفسه من 677 مليون متر مكعب في موسم 2011-2012 إلى 135 مليون مكعب فقط في موسم 2021-2022.
من جهتها، تراجعت حقينة سد أحمد الحنصالي من 993 مليون متر مكعب في موسم 2010-2011 إلى 55 مليون متر مكعب فقط في موسم 2022-2023، فيما تراجعت وارداته من 599 مليون متر مكعب في موسم 2011-2012 إلى 275 مليون مكعب موسم 2021-2022.
كما تؤكد الأرقام، الخاصة بحصص السقي، انقطاع مياه السواقي المخصصة للسقي على الفلاحين بشكل تدريجي خلال السنوات الأخيرة، وتراجع حصص السقي للمزارعين التي كانت تصل حتى 1100 مليون متر مكعب موسم 1979-1978 لبني موسى وبني عمير معا إلى 110 مليون متر مكعب فقط موسم 2021-2022. وفي هذا الصدد، طبعت بني عمير موسم 2017-2018 على 197 يوما من السقي استمرت في التراجع إلى 24 يوما فقط خلال موسم 2021-2022، ليتم تسجيل ارتفاع عدد أيام التوقف عن السقي من 168 يوما موسم 2017-2018 إلى 341 يوما موسم 2021-2022؛ وتم تسجيل آخر عملية سقي قد تمت بالنسبة لبني موسى في 01 ماي 2022 أي بمدة توقف تجاوزت 9 أشهر إلى حد يومنا هذا. بدورها سجلت بني موسى تراجعا في عدد أيام السقي من 195 يوما موسم 2017-2018 إلى 44 يوما فقط موسم 2021-2022، فيما سجلت ارتفاعا في عدد أيام التوقف عن السقي من 170 يوما موسم 2017-2018 إلى 321 يوما موسم 2021-2022؛ وتم تسجيل آخر عملية سقي قد تمت بالنسبة لبني عمير في 31 ماي 2022 أي بمدة توقف تجاوزت 8 أشهر إلى حد يومنا هذا.
شبح الندرة والتصحر
في كتاب “المغرب.. العدالة المناخية، استعجالات مجتمعية”، وهو مؤلف جماعي صدر باللغة الفرنسية، رصد الكاتب هشام حذيفة عضو الشبكة المغربية لصحفيي الهجرات إلى جانب الفريق المشارك في المؤلف عدد من المناطق الأخرى التي تعاني من شح المياه، واشتغلوا كذلك على قضية الرحل، حيث كان واضحا جدا من خلال أبحاثهم تأثير التغير المناخي على مجالهم. وفي هذا الصدد، أشار حذيفة في حديثه لبيان اليوم إلى أنهم اشتغلوا في مؤلفهم أيضا على الواحات بمنطقة سكورة التي تبعد بحوالي 30 كيلومترا على ورزازات، حيث رصدوا تضخم مشكل التصحر وشح المياه، وانعكاساته عليها.
“قطرة قطرة”.. يجف الواد
المعاناة لم تبدأ هذه السنة التي وصفت بكونها جافة، بل منذ سنوات والفلاحون الصغار يعانون جراء قطع مياه النهر ومجاري السقي دون أي توضيح لمآل استغلالها وأسباب هذه الخطوات القاتلة للفلاحين الصغار؛ وفي هذا الصدد تساءل الفلاح والكساب مرزوك الحسين مستنكرا عن مآل المياه التي لم يشهد شاهد على انقطاعها منذ زمن بعيد نهائيا، مستطردا: “لا أتحدث عن الآن حيث نقول بأنه الجفاف، لكن لا يمكن أن نرجع الوضع كله للجفاف، فمنذ أربع سنوات أو ثلاث أصبحوا يقطعون عنا الإمدادات بالماء طيلة أربعة أشهر ثم يعطوننا بعدها الحق في أن نسقي مرة واحدة “سْكْية” ساعتين فقط لكل هكتار؛ وهذا الوضع قد بدأ في وقت كانت فيه المياه جد متوفرة وكانت الأمطار مستمرة والسد كان ممتلئا!! ثم في السنتين الأخيرتين قاموا بقطعه بشكل تام، واستمر الماء منسابا عبر المجرى الرئيسي للواد، ثم بعدها قاموا بقطع الماء عن هذا النهر أيضا بشكل كامل (نهر أم الربيع)، أين ذهب هذا الماء؟ سيقولون إنه الجفاف!! نعم، نعلم أنه منذ سنتين تراجعت التساقطات الأمطار، لكن قبل هذا أين كان يذهب الماء؟ لماذا كنا نسقي لمدة ساعتين فقط؟ كنا نسقي طيلة ست أو سبع ساعات سابقا فإذا بنا أصبحنا نسقي ساعتين لكل هكتار فقط، أصبح لا يكفينا حتى في سقي الزيتون، توقفنا عن القيام بالزراعات الأخرى واعتمدنا على الآبار وتوقفنا عن اعتماد قناة السقي (القادوس) لأنه أصبح لا يكفينا حتى في سقي الزيتون، ثم قطعوا الماء بشكل كلي، قبل أن تجف الآبار بدورها”. من جهته، وبحسرة شديدة، أكد ربيع حديث والده الحسين، موضحا أنه في المنطقة كانوا يعتمدون على مياه نهر أم الربيع التي لم يشهد شاهد على جفافها رغم مواسم الجفاف الحادة التي عرفتها المنطقة سابقا، مردفا: “أصبح الوضع اليوم جد متأزم، نتمنى الأفضل”. وباستغراب شديد، قال أخ الحسين، مصطفى مرزوك، الذي التقينا معه في الجزء الثاني من زيارتنا الميدانية التي تمت على مستوى إسبانيا: “نهر أم الربيع لم يسبق أن انقطع، كنت أدرس في أولاد مراح سنة 1990 وأتوجه عبر دراجتي الهوائية من المنزل إلى الإعدادية، وكنت أمر فوق قنطرة الواد وأجده يتدفق بقوة، فكنت دائما أخاف من أن يفيض علينا.. لكن أن نراه قد جف فهنا نعلم أن القصة انتهت”.
خيارات زراعية مستنزفة للموارد
بحدس الفلاح وسلامة فراسته يستدرك الحسين مرزوك في حديثه، متسائلا: “الجفاف الصعب كان هذه السنة والسنة الماضية لكن قبلهما ما سبب تراجع منسوب المياه؟”، قبل أن يعود مجيبا عن تساؤله ويعزو ذلك إلى استنزاف الفرشة المائية من طرف أصحاب الضيعات الكبرى، الذين يعتمدون زراعات تستهلك المياه، واستغلال المياه من طرف بعض الشركات الصناعية. وأضاف المتحدث نفسه أن أصحاب الضيعات الكبرى، كانوا يعتمدون الرشاشات في السقي، مبرزا أنه في الوقت الذي كان يمتلك الفلاحون الصغار آبارا بعمق 60 مترا كانت الضيعات الكبرى تحفر آبارا بعمق 400 متر، يزودونها بمحركات بسعة 60 لتر أو 70 لتر، بينما الفلاحون الصغار يريدون فقط السقي ب40 لتر. في هذا الصدد، للوقوف أكثر على هذه النقطة التي ترتبط بالمسؤولية والمسببات في علاقتها بالمناخ، عدنا إلى عضو الشبكة المغربية لصحفيي الهجرات، هشام حذيفة، الذي سجل في حديثه مع بيان اليوم أن الأسئلة المناخية لا تزال رهينة المعضلة الكلاسيكية بين الاقتصاد والايكولوجيا، وبين ضرورة عمل الناس وبين حفظ الطبيعة والصحة، معتبرا أن ذلك ينتج عنه بالبلاد “فلاحة مكثفة” وسياسة موجهة أساسا نحو التصدير؛ وهو ما يؤدي في حالات إلى “تنمية متمركزة على الإحصائيات، على حساب الطبيعة والإنسان”. وربط المتحدث نفسه، الذي اشتغل عبر مشاركته في المؤلف على منطقة سوس التي تعاني بشكل كبير من مشكل الماء، إشكالية ندرة المياه بالخيار الزراعي الذي يستنزف ماء البلد ويدفع إلى تراجع الماء الصالح للشرب للساكنة؛ مستطردا: “لأن الأولوية معطاة للفلاحة أكثر من الساكنة في الماء، نحن اشتغلنا على سوس ولاحظنا هذا المشكل بشدة”. وعلى خلفية توجيه أصابع الاتهام من قبل المزارعين والفاعلين بالقطاع في الوصول إلى هذا الوضع إلى “الخيارات الزراعية التي تشجعها الدولة”، لا بد من الإشارة أيضا إلى أن المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بدوره نبه بداية فبراير الماضي، إلى تأثير استمرار بعض الزراعات الاستوائية، مثل البطيخ الأحمر والأفوكادو، في بعض المناطق الجافة على الاستقرار الاجتماعي. وقال المجلس في تقرير له حول “الحق في الماء: مداخل لمواجهة الإجهاد المائي بالمغرب”، إن “التغيرات المناخية تؤثر بشكل واضح على بعض المنتجات الزراعية، وأن “استغلال المياه الجوفية من أجل السقي الزراعي في المناطق الجافة يساهم في استنزافها مع توالي سنوات الجفاف”. تقرير المجلس رصد كذلك وجود مشاكل على مستوى تدبير الثروة المائية، مؤكدا كثرة المتدخلين وغياب الرقابة على الاستغلال والتقييم المستمر للوقوف على نجاعة بعض الاختيارات، معتبرا أن الحكامة من بين الأمور التي أوصلت المغرب إلى وضع الإجهاد المائي الحالي.
**لا بد من الإشارة إلى أن بني موسى وبني عمير هما مجالين فلاحيين جد شاسعين بسهل تادلة -أكبر سهل فلاحي بالمغرب-، حيث إن قبيلة بني عمير تابعة لاتحادية قبائل تادلا السفلية، التي تضم أيضا قبيلة بني موسى وقبيلة أيت الربع، وقاعدتها مدينة (الفقيه بن صالح)، وتحدها شرقا قبيلة أيت الربع حيث تقع قاعدة منطقة تادلا مدينة بني ملال، وشمالا قبيلة ورديغة، وغربا قبيلة بني مسكين، وجنوبا قبيلة بني موسى، وتمر في أراضيها الطريق الرئيسة الرابطة بين شمال ووسط المغرب أي ما بين الدارالبيضاء وبني ملال.
وبدورها بني موسى، قبيلة تادلاوية تابعة لاتحادية قبائل تادلا السهلية الوسطى، وقاعدتها مدينة (دار ولد زيدوح)، أما حدود مجالاتها فتحدها شرقا قبيلة أيت الربع حيث تقع قاعدة منطقة تادلا مدينة بني ملال، وشمالا قبيلة بني عمير، وغربا قبيلة السراغنة، وجنوبا قبيلة أيت بوزيد وقبيلة أيت عتاب وقبيلة انتيفة، ويشقها وادي أم الربيع من الشرق إلى الغرب، كما تمر في أراضيها الطريق الرئيسة الرابطة بين شرق وغرب المغرب أي ما بين مراكش والراشدية عبر بني ملال شمال جبال الأطلس الكبير.

التحدي الجماعي..

بعد هذه الرحلة الشاقة بحثا عن الحقيقة، بين المزارعين والفاعلين بالقطاع الفلاحي وسكان القرى، سواء منهم الذين لا زالوا متشبثين ببصيص من الأمل لعودة المياه إلى مجاريها الطبيعية وبزوغ فجر حياة جديد لقراهم، أو أولئك الذين انقطع بهم الأمل ورماهم القهر واليأس إلى خوض غمار الغربة والتغرب، وأيضا بين الخبراء والفاعلين في مجال البيئة والمناخ والهجرة والقانون الدولي، فلا شك أن مسؤولية القائمين على القطاعين الفلاحي والمائي ثابتة فيما آلت إليه الأوضاع، حيث إنه على مدى أزيد من عقد تم الاستمرار على نفس النهج الفلاحي المستنزف للثروات المائية، رغم تحذيرات المؤسسات الرسمية والمنظمات غير الحكومية الوطنية والدولية، ولم يتم اتخاذ أي إجراءات عملية فعلية لإنقاذ الزراعة والمزارعين والحفاظ على السيرورة العادية للحياة القروية، إذ إن القائمين على رأس القطاع الفلاحي لما يزيد عن عقد من الزمن، لم يستوعبوا حتى الفترة الأخيرة الدرس الذي حاولوا التغاضي عن حقيقته طويلا، وكان من بين أسباب إزاحة من نطق حقا ووضع الأصبع على مكامن الخلل عن مناصب المسؤولية، بدل المحاولات البائسة لإبعاد الكارثة -التي كانت محتملة جدا وهي اليوم قائمة- عن أبرز أسبابها الحقيقية. لذا إن حال الحكومة، شبيه بذلك التلميذ أو الطالب الذي لم يهتم بدروسه حين كان لزاما عليه، قبل أن يشعر بالندم وخيبة أمل لتهاونه، مقررا مراجعة ما فاته، ولو على سبيل التثقيف والتعلم، حيث لا هدف يرجى من دراسة متأخرة جدا غير ذلك (الرغبة في التثقيف والتعلم). لذلك لا يسعنا اليوم، إلا التصفيق بحرارة، على قرار الحكومة، الذي هم تقنين بعض الزراعات التي تستنزف الفرشة المائية، من قبيل البطيخ والأفوكادو، إلا أن هذا التنويه لا يعدو أن يكون مجرد ردة فعل مشابهة لذاك الذي حصد الشواهد كهلا. فعلا، لا تستحق الحكومة التي ظل رئيسها على رأس القطاع الفلاحي، منذ سنة 2007، إلا عبارات الإطراء على الأقل لاعترافها بحقيقة وواقع النهج الذي تسير عليه في تدبير المجال الفلاحي، من قبيل هذا القرار، الذي اتخذته نهاية فبراير 2022، وكان واجبا ولزاما اتخاذه إلى جانب تدابير أخرى قبل ذلك بسنوات طويلة قبل فوات الأوان، بدل إبعاد وإزاحة من يدعو له ويطالب به. لقد تم ضخ ملايير الدراهم للقطاع الفلاحي، على مدى سنوات طويلة، في إطار مخططات بألوان مختلفة، لم يفلح أي منها في جعل المملكة مستعدة لاجتياز أبسط امتحان وضعتها الطبيعة أمامه (موسم جفاف كالذي نعيشه). بعد أشهر فقط فصلت عن جني محصول زراعي خلال الموسم الماضي كان وافرا جدا، وفاق كل الانتظارات والحاجيات، دخلت البلاد في أزمة غلاء أسعار العلف بشكل أرهق الفلاحين الكبار قبل الصغار، مما دفع العديد منهم إلى بيع قطعانهم بأبخس الأثمان، ومنهم من تخلى عنها وسط الأسواق بدون مقابل، ثم الهجرة نحو المدينة أو خارج أرض الوطن، خاصة في ظل غياب سياسات تضمن لهم البديل، أو سياسات استشرافية لتدبير الأزمات، مما يطرح سؤال تدبير المحاصيل الزراعية الجيدة خلال مواسم الخصوبة، وأيضا نتائج مليارات الدراهم التي صرفت على القطاع، والتي كان من المفروض أن تظهر نتائجها خلال هذا الموسم الاستثنائي الجاف. إن استفاقة الحكومة المتأخرة والباهتة، واستيعابها خطورة بعض الزراعات على مستقبل الفلاحة بشكل عام والمياه الجوفية بشكل خاص، ينبغي أن يرافقه التفكير بجدية ومسؤولية، في كل مكامن الخلل التي طالما تغاضت عنها. كما أضحى لزاما على الحكومة، ترشيد أنواع الزراعات وفق الحاجيات الأولوية للمملكة، ومدى ملاءمة الزراعات الجديدة للظروف المناخية والبيئية، وأيضا مدى استنزافها للمياه الجوفية -تشجيع الزراعات غير المستهلكة للمياه-، حتى لا نفقد ثروة بلادنا من المياه الجوفية، ثم العمل على ضمان استقرار الفلاح بالقرية من خلال توفير الظروف الملائمة له لاستمرار أنشطته، وهذا هو أحد رهانات هذا العمل الصحفي الذي كشف عن ما يلي: -تراجع حقينة السدود وجفاف شبه كلي للأنهار والآبار وقطع تام للمياه عن السواقي الفلاحية. -محاولات لحفر آبار بحثا عن المياه تجاوزت عمق 300 متر دون جدوى. -اتخاذ تدابير حكومية لضمان الأمن المائي لسكان الحواضر على حساب المزارعين والزراعة. -اعتماد زراعات مستنزفة للثروة المائية واعتماد كبار الفلاحين على مياه الفرشة المائية العميقة إضافة إلى الاستغلال المفرط للمياه من طرف شركات صناعية. -عدم إشراك المعنيين المباشرين في سن السياسات العمومية الخاصة بالقطاع الفلاحي والمجال القروي. -انهيار الزراعة (اصفرار النباتات الحولية وخرف أشجار الزيتون) وتراجع أنشطة تربية المواشي والأبقار. -تعاونيات لتجميع الحليب واستخراج زيت الزيتون مغلقة بشكل نهائي. -غياب أي أنشطة بديلة عملية لسكان القرية خاصة منهم الفلاحين والمزارعين الصغار في ظل تواجدهم على مشارف موت القطاع الفلاحي. –كثرة المتدخلين وغياب الرقابة على الاستغلال والتقييم المستمر للوقوف على نجاعة بعض الاختيارات، وضعف الحكامة من بين الأمور التي أوصلت المغرب إلى وضع الإجهاد المائي الحالي. -سياسات عمومية عمودية تفتقد للالتقائية ولا تحفز استدامة التنمية مما يضعف من فعاليتها. -غياب الفلاح الصغير عن برامج الإنقاذ بقلتها وعدم نجاعتها الكافية مقارنة مع الوضع القائم. -تفكير جماعي للهجرة نحو المدينة وخارج أرض الوطن وتعويل على الجالية المغربية لتأمين الغذاء وحاجيات الحياة اليومية. -الهجرة بأشكال متعددة أقل ما توصف به كونها مرعبة للوصول إلى ما يعتبرونه “فردوس موعودة”. -معاناة حقيقية لمهاجرين غير نظاميين ببلدان المهجر. -عدم معرفة كل المهاجرين غير النظاميين بما يسمى “اللجوء المناخي” -لجوء بعض المهاجريين غير النظاميين الذين هاجروا بسبب المناخ لمسطرة اللجوء الإنساني كسبيل لضمان وقت كافي للبحث عن الاستقرار. -تأثر صورة المغرب جراء ارتفاع نسبة المهاجرين غير النظاميين وطلبات اللجوء الإنساني منه وما للأمر من انعكاس على موقع البلد داخل خارطة العالم اقتصاديا واجتماعيا. -عدم الاعتراف الدولي باللجوء المناخي أو الهجرة بسبب المناخ كسبب لطلب اللجوء. ختاما، نستحضر ما قاله الحكيم الهندي ذات مرة لأحد تلاميذه عندما سأله عن كيف أقدم خدمة لوطني ؟ أجابه قائلا : قل له الحقيقة؛ لذا نهمس لحكومتنا أنه عليها أن تعي الدرس، وتشرك جميع الفاعلين المعنيين في تدبير القطاع إشراكا فعليا، بدل إنزال سياسات مركزية بعيدا عن انتظارات الواقع، إضافة إلى الرجوع لتوصيات الخبراء والباحثين في القطاع ثم التقارير الدولية والوطنية؛ ثم أخيرا الترافع على المستوى الدولي، للعمل من أجل الاعتراف باللجوء المناخي والهجرة بسبب الجفاف والتغير المناخي.