Show Menu
True Story Award 2024

مقابر بلا شواهد.. روايات ناجين من سجون “نبع السلام”

عشرات السجون العلنية والسرية في سري كانيه" رأس العين " وتل أبيض، الخاضعتين لسيطرة فصائل المعارضة السورية وتركيا, يطلق عليها اسم "المسالخ", ترتكب فيها الفصائل انتهاكات مروعة بحق المعتقلين منذ أن سيطرت على المنطقتين عام 2019 بعد الاجتياح التركي.
يتعرض المعتقلون والمحتجزون قسرياً في تلك السجون لأشكال مروعة من التعذيب والتعنيف الجسدي واللفظي, كما يتعرضون للمعاملة اللاإنسانية والمهينة, إذ يتم تجويعهم وحرمانهم من حقهم في الرعاية الصحية اللازمة, ويمنعون من التواصل مع عائلاتهم, ومن حقهم الدفاع القانوني. وانتهكت الفصائل حق المعتقلين في الحياة, وتسببت بمقتل المئات منهم تحت التعذيب أو رمياً بالرصاص.
ترتقي هذه الانتهاكات المرتكبة ضد حقوق الإنسان، لتكون جرائم حرب "وفق نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية", وتعد أسلوباً متبعًا من قبل الفصائل في جميع مناطق سيطرتها, حيث لا يتم إيلاء أي أهمية لأرواح السجناء ولا لحقوقهم الإنسانية, كما أن غياب الرقابة وسهولة إفلات مرتكبي الانتهاكات من العقاب وتلقيهم الدعم والتأييد المستمر من تركيا قد يتسبب بمقتل المعتقلين وفقدانهم الحياة بشكل مأساوي.
يتم تنفيذ عمليات التعذيب والتعنيف داخل هذه السجون بأوامر ينفرد بإعطائها قادة الفصائل وتنفذ بدون أدنى تدابير مقوننة للمحاسبة والمسائلة المسلكية، مما يعني أن المنتهكين يستمرون في ارتكاب هذه الجرائم بلا خوف من العواقب.
وتركيا كدولة سيطرت على تلك المناطق ورعت فصائل المعارضة السورية، يتوجب عليها أن تتحمل المسؤولية الكاملة عن هذه الانتهاكات البشعة التي يتعرض لها المعتقلون, وكونها من الدول الموقعة والمصادقة على اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984, لذا عليها التدخل لوضع حد لهذه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في السجون التابعة للفصائل المعارضة, كما يجب أن يتم محاسبة المسؤولين عن ارتكاب هذه الجرائم البشعة، وتأمين العدالة للضحايا والحفاظ على حقوق المعتقلين وكرامتهم الإنسانية.

روايات الناجين من سجون الفصائل
ظروف احتجاز لاإنسانية
"لمدة خمسة أيام متواصلة تعرض أخي كريم الذي يعاني من مرض السكري للشبح، وللتعذيب المستمر لمدة ثمانية أشهر في أحد سجون السلطان مراد السرية في سري كانيه, بعد فقدان أثره كل هذه المدة وجدوه مرمياً وفاقداً للوعي, توفي أخي كريم بسبب التعذيب وسوء المعاملة ولأنهم منعوا عنه أدويته", يقول سالم الأحمد الثلاثيني، وهو أخ الشاب كريم.
اعتقل كريم من قبل فصيل السلطان مراد من منزله وأمام زوجته وأطفاله في صيف 2022, بعد أن رفض بيع أرضه لأحد القادة الأمنيين في الفصيل, لكن التهمة كانت تهريب عناصر من قوات سوريا الديمقراطية نحو تركيا.
يضيف "سالم": " قبل وفاته أخبرنا أخي كيف عذبوه, علقوه من يديه إلى السقف بجنزير معدني وانهال عليه عدد من العناصر بالضرب, بقي معلقاً لخمسة أيام انزلوه خلالها مرتين فقط, كما كانوا قد منعوا عنه الدواء".
"كان جسد أخي مليئاً بالجروح العميقة وندوب التعذيب, عوضاً عن أنه كان قد فقد الشعور بإحدى يديه نتيجة التعذيب والصعق بالكهرباء, وكان طعامه عبارة عن رغيف خبز كل24 ساعة أو أكثر".
بعد مرور ثمانية أشهر وجدت أحد الفصائل بريف سري كانيه، الشاب مرمياً على الطريق في أحد المناطق القريبة من المدينة, "أسعفناه إلى المشفى كان في حالة دامية مخيفة, بعد أشهر على بقائه في المشفى, فارق الحياة بسبب تلف في بعض أعضائه الحيوية جراء نوبات السكري المتتالية وعدم تناوله للأدوية إضافة لسوء تغذية حاد، ورغم أن الفصيل أخبرنا أنهم يجرون التحقيقات فيما يتعلق بقضية اخي، إلا أنه تم تسجيلها ضد مجهولين وأغلق ملفه".
بالرغم من أن الاحتجاز كان تعسفياً وتعرض فيه الشاب للتعذيب الجسدي والنفسي وحرم من الرعاية الصحية والمحاكمة العادلة, إلا أنه لم يتم التحقيق في القضية ولم يخضع الأشخاص الذين عذبوه للمسائلة بالرغم من أنهم "كانوا معروفين"، بحسب الأخ.
تعاني مناطق فصائل المعارضة الموالية لتركيا من الفلتان الأمني لعدم وجود نظام إداري وقضائي نافذ ومحكم، وتتم إدارة المنطقة من قبل الفصائل المسلحة التي تمارس وبقوة السلاح، الخطف والإخفاء القسري والاحتجاز التعسفي المكلل بضروب التعذيب والمحاكمات الميدانية، كما روى الكثير من الشهود العيان الذين نزحوا من تلك المناطق خشية تعرض أبنائهم لفظاعة ممارسات الفصائل لأسباب واهية وكيدية في ظل غياب الرقابة والمساءلة وسهولة الإفلات من العقاب.
احتجاز تعسفي
ولا يختلف الوضع في تل أبيض عن سابقتها, فالمسيطر واحد بالرغم من تغير أسماء الفصائل. في كانون الثاني/يناير من عام 2023 بمدينة تل أبيض, اعتقل فصيل الجبهة الشامية شاباً بعد أن تم ترحيله قسراً من تركيا بأيام.
وتقول إيمان عبد العزيز الأربعينية، وهي أم الشاب "كنا سوية، فجأة وجدت مسلحين حولنا اعتقلوا ابني من وسط المدينة بعد ترحيله من تركيا بعدة أيام, بحجة أن هناك شبهات أمنية حوله, ليردني بعدها بيومين اتصال يطلبون مني 10 آلاف دولار خلال 48 ساعة لإطلاق سراحه, وقالوا لي إن تهمته جاهزة وهي أنه يعمل لصالح قوات سوريا الديمقراطية, وهددوني أنه في حال لم أعطهم المبلغ سيسلمونه إلى الاستخبارات التركية. جعلوني أسمع صوته وهو يصرخ تحت التعذيب".
حاولت السيدة الاستعانة بجهة رسمية لمساعدتها في إيجاد ابنها وإخلاء سبيله, إلا أن جهودها بائت بالفشل، ليرفع الفصيل المبلغ إلى 15 ألف دولار بعد علمهم بالأمر.
لم تستطع السيدة تأمين سوى 6 آلاف دولار وقبل الفصيل إطلاق سراح ابنها, واستدعوها إلى منطقة نائية, لتجد ابنها هزيل الجسم وبثياب مقطوعة.
تضيف السيدة: "عذبوه بشكل لا إنساني, فإضافة للصعق بالكهرباء وضربه على أعضائه التناسلية, وإطفاء السجائر في جسده, كانوا يعطونه شراباً مدراً للبول ويربطون عضوه التناسلي, كان قد كسرت أسنانه بسبب العنف الذي مارسوه عليه", ترك الشاب والدته ومنزله وفر من المدينة عن طريق التهريب قاصداً مدينة الرقة.
في غرفة القبو
"الجميع عبروا, أما أنا اعتقلت لم أستطع العبور لأنني كردي", في سجن الشرطة المدنية بسري كانيه في آب/ أغسطس 2021, في غرفة قبو تحت الدرج حيث لا مجال للضوء أو الهواء, سجن رامي حسن العشريني لوحده بعد أن اعتقله الفصيل من بين عشرة أشخاص آخرين أثناء محاولتهم عبور الحدود السورية التركية بطريقة غير شرعية.
وعما مر به في السجن قال: "تعرضت لكافة انواع التعذيب الجسدي والنفسي".
ويضيف: "في أول لحظات اعتقالي وبعد محاولة هروب فاشلة, رُبطت يداي خلف ظهري بـ كلبشة بلاستيكية وأُغمضت عيناي, وقال أحدهم خذوه إلى سجن المدنية, حينها تحطمت نفسيتي وفقدت الأمل بالعيش". قبل أن يخرج الشاب في رحلة لجوئه غير الشرعية, كان أصدقائه قد حذروه من فرع الشرطة المدنية ووصفوه بـ "أوسخ فرع" في إشارة منهم لأكثر الأفرع ارتكاباً للانتهاكات من تعنيف وتعذيب.
خضع الشاب ثلاث مرات للتحقيق خلال الأيام الثمانية التي اعتقل فيها, تعرض حينها للتعذيب والتعنيف اللفظي والجسدي, "عند وصولي للسجن استجوبت عن الكثير من التفاصيل مثل سبب مجيئي وإلى أين كنت سأذهب ومن أنا ومن عائلتي وعن انتمائي السياسي والعسكري؟ وأخيراً سألوني أين كنت ستفجر نفسك؟ انصدمت وبدأت الدفاع عن نفسي والتوضيح بأن سبب قدومي الوحيد هو رغبتي بالعبور إلى تركيا ومنها إلى أوروبا".
في كل مرة كان يستجوب فيها كان يجبر بأن يجثوا على ركبتيه بيديه المكبلتين وعينيه المغمضتين وتحت تهديد بأنه يجب أن لا يقع أو ينهار وفي كل مرة كان ينهار فيها يجلسوه مجدداً. زفي كل مرة كان يتعرض للضرب بقضيب خشبي مستدير على ظهره وعظامه، بالإضافة إلى الصفع والضرب في محاولة من عناصر الفصيل لإجباره على الاعتراف بأنه قدم إلى المدينة لينفذ تفجيراً.
وأشار العشريني، "في أحد التحقيقات أغمضوا عيني ووجهوا ضوءاً قوياً بشكل مباشر على وجهي ليتأكدوا أني لا أرى, اعتقد أن التحقيق حضره شخص مهم لأني كنت أسمع صوت الأوراق، كان هناك أحد يكتب إفادتي, وطلبوا مني أن أعطي أسماء الذين دفعوني للقدوم إلى المدينة, في حين كنت لاأزال أوضح لهم أنني مدني وطالب لجوء وليس لي أي انتماءات سياسية أو عسكرية. ساوموني على حريتي".
بعد أن تأكدوا أن الشاب مدني لا يتبع لأي جهة عسكرية "بدأوا باتباع أسلوب العنف النفسي معي، "سمعتهم كانوا يقولون إذا لم يتكلم بشيء مفيد اقتلوه, وبعدها بدقائق أطلقوا النار من المسدس اعتقدت أنها أصابتني انهرت حينها لكن بعد دقائق أدركت أنها كانت في الهواء".
وأضاف: "كانوا كل ثماني ساعات يسمحون لنا مرة واحدة بالخروج إلى الحمامات, وكانوا قد هددوني في حال لم أصمد لوقتها"، وتوقف لبرهة عن الكلام ثم قال: "لا أستطيع التعبير... كان تهديداً بشعاً, لذا امتنعت عن شرب الماء خوفاً من أن ينفذوا تهديدهم, أما بالنسبة للطعام، جلبوا لنا الطعام ثلاث مرات, خلال الأيام الثمانية، والماء كل يوم كانت لنا قارورة صغيرة منه"، يقول الشاب.
في ذلك القبو المعتم الهادئ بعد اعتقاله بعدة أيام, كسر الصمت الذي عمَّ الأرجاء بأصوات أقدام ثم باب فتح, يقول رامي: "جلبوا شخصاً إلى الغرفة المجاورة كانوا يضربونه بقضيب حديد وكان صوت صراخه يعلو في أرجاء المكان وهم يضربوه ويسألونه كنت تعمل مع الخنازير إذاً, وفجأة انقطع صوت الضرب والصراخ بعدها سمعت صوت سحبه، كانوا يسحبونه على الأرض وكأنه كيس خيش أعتقد أنهم قتلوه".
أجبرت الفصائل الشاب خلال فترة اعتقاله على تناول نوع من الحبوب لم يستطع معرفتها, وبعدها بقي لمدة تتجاوز الـ 24 ساعة من دون ماء أو طعام ومنع من الخروج إلى الحمام بسبب انشغال عناصر الفصيل باشتباك حصل بالقرب من السجن, ونتيجة للضرب والتعذيب انهار الشاب وفقد الوعي ليستيقظ بعدها على سطل من الماء سكبه أحد العناصر عليه وخرج, ليسمع صوت أحدهم يقول: "خذه وصفوه", "راودني شعور الراحة فالموت أفضل من هذا العذاب".
خرج الشاب من السجن وأدخلوه إلى سيارة, بعد دقائق أنزله العنصر وأجبره على أن يجثوا على ركبتيه, ليفك بعدها يده وعينيه وألقى به في حفرة عميقة, لايزال إلى الآن يستغرب كيف أنه في ذاك الوضع الدامي والمأساوي أستطاع الخروج منها وسار لمئات الأمتار ليعود إلى منزله في ريف الحسكة.
في ختام حديثه يقول الشاب:" كنت فاقداً للأمل بالعيش. اعتقدت أنها آخر لحظاتي, لكني نجوت".
أشبه بالمقبرة
أما عمر الأحمد (27 عاماً) وهو مهندس معماري من مدينة حلب, أجبر على الخروج من المدينة فراراً من الخدمة الإلزامية مع قوات حكومة دمشق إلى سري كانيه ليعبر إلى تركيا في تشرين الأول/أكتوبر عام 2021, فاعتقل من قبل فصيل فيلق الرحمن اللواء 111مع 4 شبان آخرين بالقرب من الحدود.
يقول الشاب: "كبلوا أيدينا وأغمضوا أعيننا ضربونا وسحبونا على الأرض, ثم رمونا في مكان كانت تفوح منه رائحة الماشية".
احتجز الشبان الخمسة في حظيرة للحيوانات في ذلك الشتاء القارس، دون وجود أي شيء يستطيعون الجلوس عليه, ووسط الروائح والرطوبة الخانقة, على حد وصف الشاب.
يضيف عمر: "بعد ثلاثة أيام من الاحتجاز جلبوا لنا ماءً وخبزاً جافاً, كل 24 ساعة كانوا يسمحون لنا مرة واحدة بالخروج لقضاء الحاجة, تم منعنا من الخروج للتواليت آنذاك بل نكتفي بالتبول في الكالونات". في الوقت ذاته كان عناصر الفصيل "يتفاوضون مع عائلاتنا من هواتفنا لتحصيل فدية بدأت بـ 5 آلاف دولار وانخفضت حتى 2000, كنا نعلم أن عائلاتنا لا تملك هذا المبلغ ولا تستطيع تحصيله".
بعد مرور أسبوع على اعتقال الشبان, في تلك الحظيرة وسط ظروفٍ صعبة ومهينة, وبعد أن فقد الفصيل الأمل في تحصيل فدية, بدأت رحلة تعذيبهم.
أخذ الشاب نفساً عميقاً وبدأ بسرد قصة تعذيبه, "بدأ التعذيب بسكب الماء البارد والضرب بالسوط والجنازير الحديدية, كل عنصر كان قد استلم شخصاً منّا, يستمر الضرب إلى أن يتخدر جسدنا وننهار ونفقد وعينا، كانوا يتركوننا لمدة ساعتين، وبعدها تعاد الكرة, استمر التعذيب حتى ظهر اليوم الثاني بعد أن قضينا الليلة أكملها تحت الضرب والتعذيب، وتم إخراجنا بعدها إلى الخارج، تركونا عراة حفاة جاثين على ركبنا في جو بارد, حتى نسمات الهواء التي كانت تلامس أجسادنا كانت بمثابة تعذيب آخر لجروحنا المفتوحة".
بعد أن أخرج الشبان إلى الخارج بدئوا بالنظر حولهم لعلهم يعرفون أين هم, يقول العشريني: "شاهدنا منزلاً ريفياً يبدو أنه انتزع من أصحابه، بجانبه حظيرة للمواشي سقفها توتياء وجدرانها من الطين، بينما المنزل ملاصق للحضيرة يضم أكثر من 3 غرف، وكانت هناك غرفتان مسبقتا الصنع إلى جانب المنزل رفع فوقهما العلم التركي، وأمامهما عربتين عسكريتين تحملان اسم فيلق الرحمن، وسيارة فان مغلقة هي التي تم اقتيادنا بها إلى هناك, لمدة تتجاوز الخمس ساعات بقينا على ذاك الوضع".
بعد أن تم إعادة الشبان إلى الحظيرة فقدوا الوعي نتيجة التعب ووهن أجسادهم من دون ماء وطعام لأيام عديدة, استيقظوا صباحاً على صوت إطلاق نار، كانت طريقة التعذيب تلك متبعة لإيقاظ المعتقلين إما بقنبلة صوتية أو بالرصاص.
يقول الشاب: "نقلت إلى غرفة فيها ثلاثة أعلام أحدها العلم التركي وآخر مكتوب عليه فيلق الرحمن وآخر للجيش الحر، وضعت الكاميرا أمامي وأجبرت على االقول بأني عميل لقوات سوريا الديمقراطية، وأنه تم ضبطي أثناء محاولتي تنفيذ تفجير سيارة مفخخة في المدينة",لم يكن للشاب أي خيار آخر سوى قول بما يريده العناصر دون أن يعرف الهدف منه.
أعيد الشبان للحظيرة لكن اثنين منهم لم يعودوا, "تم نقلنا إلى غرفة الكهرباء، وقبل أن تبدأ جولة التعذيب الجديدة سألت العنصر عن الشابين الآخرين, فكان رده أنهم في التحقيق عند منكر ونكير... سنجمعكم بهم يا خنازير".
وعلى أنغام أغنية شعبية، تعرض الشاب للصعق بالكهرباء لعدة مرات دون أن يتم سؤاله عن أي شيء ليفقد وعيه بعدها." استيقظت على ماء بارد, وتمت إعادتنا مرة أخرى للحظيرة, في مساء اليوم ذاته وصل أبو سعيد الخضر المسؤول عن العناصر ومعه طعام جاهز ليخبرنا أننا سنخرج بعد شهر من الآن، وأن عائلاتنا دفعت الفدية المالية، ذلك بعد أن جرى ابتزازنا بالمقطــع الــذي تــم تصويــره، وكإجـراء احتـرازي ولإرغامنا على عدم ذكر مــا عشــناه فــي فتــرة احتجازنــا".
يضيف: "نقلنا بعدها إلى مكان آخر جدرانه اسمنتية ويبعد نحو ساعتين تقريباً عن المكان الأول، أدخلونا إلى غرفة اسمنتية مساحتها لا تتجاوز ال30 متر مربع, وتضم نحو 50 شخصاً كلهم بتهم مزيفة وقد تم تحصيل فدياتهم من ذويهم. أمضيت في السجن شهرين تقريباً قبل أن يخرجوني ويرموا بي عند مدخل قرية تل حلف التي على ما يبدو لا تبعد كثيراً عن هذا المعتقل باعتبار أن المسافة لا تزيد عن نصف ساعة عبرنا فيها طرقاً ترابية وأخرى اسفلتية" يروي الشاب.
في المعتقل الأخير الذي نقل إليه عمر، كان قد انصدم بوجود أمراضٍ مزمنة منتشرة بين المعتقلين مثل السل وأخرى لم يعرف ما هي ولكن أثرها كان واضحاً على أجساد المعتقلين الهزيلة, والطعام الوحيد الذي كان يقدم لنا هو قطعة خبز جافة وشوربة عدس, خلال الشهرين الذين بقيت فيهما هناك, لم يدخل طبيب إلى المعتقل ولم يتم أخذ المرضى إلى أي مركزٍ طبي, بل باتوا في مواجهة الموت في مكان أشبه بالمقبرة".
بعد مرور شهرين على اعتقالهم رمي عمر والشابان اللذان كانا معه إلى مدخل مدينة تل حلف, بقوا فيها لـ 15 يوماً, وعبروا الحدود مرة أخرى إلى تركيا بعد أن دفعوا مبلغ 1500 دولار لمهرب.
سجون الفصائل العلنية والسرية
بحسب مصادر أمنية ضمن صفوف الفصائل في منطقة تل أبيض و سري كانيه, فإن السجون العلنية منها والسرية جميعها تدار من قبل الاستخبارات التركية، إذ ترسل ملفات المعتقلين لتركيا وتتم دراسة أوضاعهم الأمنية ليتم نقل بعضهم إلى أراضيها بطرق غير شرعية، أما الآخرين فتعاد ملفاتهم ولكن يخضعون حينها لابتزاز الفصائل ومقايضاتهم من أجل تحصيل فدية من ذوي المعتقلين, كما أشار أحد تلك المصادر لوجود عدد كبير من المعتقلين غير مسجلين في سجلات الاعتقال وتستخدمهم الفصائل من أجل تحصيل الأموال وهؤلاء الأشخاص غالباً ما يكونون طالبي لجوء وتم اعتقالهم أثناء محاولتهم عبور الحدود السورية التركية, ويتعرضون حينها للتعذيب والشبح والاغتصاب والتحرش الجنسي ويعتبر ذلك أمراً روتينياً ضمن سجون الفصائل.
وأشار المصدر لوجود أكثر من 27 سجناً منها 9 علنية والأخرى سرية تنتشر في المدينتين وأريافهما, وهي: (السجنان المركزيان في سري كانيه وتل أبيض, وسجني الشرطة العسكرية, وسجني الشرطة المدنية, وثلاثة سجون تابعة لجهاز مخابرات وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة في المنطقتين), أما السجون الأخرى، فلدى فصيل الجبهة الشامية سجنان, كما لكلٍ من فصيل فيلق الرحمن ولواء المعتصم والعمشات سجون سرية في تل أبيض والقرى التابعة لها, بالإضافة لسجن سري في بلدة حمام التركمان يتبع لفصيل جيش الشرقية, وسجن لأحرار الشرقية والفرقة20 في بلدة سلوك, بالإضافة إلى سجنين لفصيل الحمزات وآخرين للسلطان مراد و6 سجون للفيلق الثالث.
بينما استطاع القسم التأكد من إحداثيات 13 سجناً ومراكز أمنية للفصائل منها 6 في تل أبيض وهي: (سجن الشرطة العسكرية والمحكمة العسكرية، سجن الشرطة المدنية وسجن تل أبيض المركزي، المركز الأمني للجبهة الشامية وسجنها).
ووصف أحد المعتقلين لدى الجبهة الشامية في تل أبيض، تفاصيل أحد السجون السرية التابعة لهم: "المعتقل عبارة عن مزرعة مؤلفة من طابقين في منطقة نائية, الطابق الأول يضم غرفتين بمساحة 50 متراً تقريباً يحتجز فيهما أكثر من 70 شخصاً, أما القبو فيه ثلاث غرف تستخدم للاحتجاز الإفرادي وغرفة أخرى للتعذيب".
وفي سري كانيه تم التأكد من إحداثيات 7سجون ومراكز أمنية، 3 منها للسلطان مراد وسجن لفصيل الحمزات ومركز وسجن الشرطة المدنية والسجن المركزي في المدينة.
إحصائية المعتقلين
منذ بداية العام الجاري، سجل القسم اعتقال 89 مدنياً بشكل تعسفي على يد فصائل المعارضة الموالية لتركيا في سري كانيه وتل أبيض, حيث اعتقل في تل أبيض 13 شخصاً بينهم 1 طفل، معظمهم تم اعتقالهم على يد الشرطة العسكرية, بينما في سري كانيه، تم اعتقال 76 شخصاً بينهم 4 سيدات, حيث اعتقلت الشرطة المدنية 42 شخصاً منهم, و27 من قبل الشرطة العسكرية, و7 من قبل فصيل السلطان مراد.

وأفاد مصدر أمني، بأن عدد المعتقلين لدى الفصائل الذين تم تسجيلهم ضمن السجلات الرسمية منذ بداية العام في المنطقتين بلغ نحو490 معتقلاً بينهم نحو 100 سيدة، بالإضافة لأطفال دون سن الـ 18 لم يُعرف عددهم.
وأشار أنه في سري كانيه فقط ضمن سجون الشرطة المدنية يوجد حالياً نحو 170 معتقلاً منهم 6 سيدات وقرابة الـ 135 معتقلاً في سجن الشرطة العسكرية بينهم 11سيدة, وفي سجن ببلدة حمام التركمان التابع لفصيل جيش الشرقية يوجد نحو 35 معتقلا معظمهم من طالبي اللجوء الذين تم احتجازهم أثناء محاولتهم عبور الحدود السورية التركية وغالباً ما يتم الإفراج عنهم بعد تحصيل الأموال من ذويهم, أما في قرية المبروكة يوجد أكثر من 90 شخصاً في سجن لفصيل الحمزات وآخر للسلطان مراد يقدر عددهم بأكثر من 90 معتقلاً.
التهم المنسوبة للمعتقلين
تستهدف فصائل المعارضة في مدينتي سري كانيه وتل أبيض في اعتقالاتها التعسفية، طالبي اللجوء الذين يدخلون إلى المنطقة للعبور إلى تركيا بطرق غير شرعية, وأخرين من الوافدين إلى المنطقة بعد الاجتياح التركي للمنطقتين بتهم واهية مثل العزم على تنفيذ اغتيالات وتفجيرات أو تصوير مواقع أمنية للفصائل أو الانتماء لقوات سوريا الديموقراطية أو موظف سابق في الإدارة الذاتية.
وهناك آخرون توجه لهم تهم واهية من قبيل: العزم على تنفيذ اغتيالات وتفجيرات أو تصوير مواقع أمنية للفصائل أو الانتماء لقوات سوريا الديمقراطية أو لعملهم السابق في إحدى مؤسسات الإدارة الذاتية.
وبالاستناد لشهادات خمسة من طالبي اللجوء الذين عبروا من سري كانيه، فإن جميعهم أجبرتهم الفصائل على الاعتراف تحت قوة السلاح أنهم قدموا للمنطقة لتنفيذ تفجيرات وتم تصوير اعترافاتهم وتم استخدامها لاحقاً لابتزازهم وتحصيل الأموال مقابل إطلاق سراحهم.
في ظل الفلتان الأمني والغياب التام للنظام القضائي في تلك المناطق, تتعسف وتتمادى العناصر الأمنية المنضوية تحت لواء الفصائل المسيطرة، في استعمال سلطتها داخل المعتقلات وأماكن الاحتجاز في ظل وصول مقيد للمنظمات الدولية ولاسيما الحقوقية ودون أدنى خضوع للرقابة والمسائلة, إذ يتعرض المعتقلون لأوضاع سيئة جدًا وظروف غير إنسانية، ويحرمون من ممارسة حق الدفاع وتوكيل محام أو مجرد السماح لهم بالاطلاع على مصيرهم القانوني, وهذه الممارسات بدورها تندرج ضمن أنماط التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان وتشكل جرائم ضد الإنسانية.
مسؤولية تركيا عن هذه المعتقلات
منذ أن فرضت تركيا سيطرتها على مناطق في الشمال السوري نقلت عشرات المعتقلين في سجون الفصائل الموالية لها بطرق غير شرعية للأراضي التركية ومعظمهم من الكرد.
منذ بداية العام, وبحسب ما سجله قسم الرصد والتوثيق نقلت السلطات التركية 25 سورياً من سجون الفصائل في سري كانيه وتل أبيض إلى أراضيها, 8 من المعتقلين في تل أبيض بينهم سيدة و17 في سري كانيه, معظمهم طالبي لجوء تم اعتقالهم أثناء محاولة عبور الحدود ونسبت لهم تهمة "تهديد الأمن القومي التركي".
بالإضافة إلى عمليات النقل غير الشرعية والتي تعد انتهاكاً للقانون الدولي, تنتهك الدولة التركية أيضاً القانون الدولي الإنساني, بتدخلها المباشر في النزاع داخل سوريا كدولة جارة لها, إذ تشرف بشكل مباشر على سجون الفصائل وسجلات المعتقلين والأحكام التي تصدر بحقهم, وشهدت سجون الفصائل ومراكزها الأمنية العديد من زيارات لضباط ومسؤولين أمنيين أتراك.
وبحسب مصدر أمني من الشرطة العسكرية في سري كانيه، فإن جميع الفصائل تتحرك بأوامر من القيادات التركية, واستطاع القسم الوصول والتأكد من أسماء 6 من المنتمين إلى الاستخبارات التركية والمشرفين على السجون وشاركوا في الكثير من الأحيان في التحقيقات التي تعرض فيها الأشخاص للتعذيب والتعنيف.
كيف ينظر القانون لهذه الممارسات؟
تعتبر فصائل المعارضة الموالية لتركيا طرف من أطراف النزاع في سوريا إلا أنها لا تخضع بشكل مباشر للقوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية الموقعة أو المصادقة عليها سورياً كونها كيان غير رسمي.
لكنها خاضعة لقوانين والتشريعات السورية التي بدورها تجرم أفعال التعذيب والاحتجاز التعسفي وإخضاع الأشخاص لضروب من الشدة و معاقبة كل شخص ٍيقوم بأعمال التعذيب أو ممارسة الشدة، أو أمر باستخدامها ضد آخرين، أثناء قيامهم بواجباتهم الوظيفية أو بسببها، ومن ذلك قانون العقوبات الصادر في 22 حزيران/يونيو 1949 ، والذي يمنع تعذيب الأشخاص وحافظ على كرامتهم ومنع ممارسة أي لون من ألوان الإكراه عليهم ، وحظر توقيفهم أو حبسهم في غير الحالات المنصوص عنها قانوناً, لكن الناجين أو عائلات الضحايا لن يتمكنوا من القصاص العادل، كون القضاء السوري يصنف هذه المناطق بأنها خارج السيطرة الأمنية ويستحيل تحرك الضابطة العدلية فيها, وباعتبار أن البلاد تعاني واقع جيوسياسي غير مستقر ومترامي السيطرات فمن السهل الإفلات من قبضة العدالة.
وكذلك ملزمة بالقانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان التي تحكم فترات النزاعات المسلحة, و تمنع الاعتقالات التعسفية والتعذيب والتجريد التعسفي من الحياة وغيرها من ضروب المعاملة اللاإنسانية, وتفرض على الأطراف احترام حقوق الإنسان الأساسية للأفراد، بغض النظر عن وضعهم القانوني أو السياسي أو تعريضهم للتميز بسبب انتماءاتهم.
لذا ينبغي عليها تنفيذ التزاماتها كطرف من أطراف النزاع, ووقف ومنع التعذيب وضمان معاملة إنسانية للمحتجزين والأسرى والمعتقلين الذي تحظره المادة 5 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
كما تنطبق على الفصائل المادة 2و 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف لعام 1949 والتي تطالب بمعاملة جميع الأشخاص معاملة إنسانية وعدم التمييز ضدهم أو تعريضهم للأذى وتحرم على وجه التحديد القتل, والتشويه, والتعذيب, والمعاملة القاسية, واللاإنسانية, والمهينة, واحتجاز الرهائن, والمحاكمة غير العادلة, وتحض هذه الاتفاقيات كل الأطراف على احترام الحقوق الأساسية للأفراد، بغض النظر عن وضعهم القانوني أو السياسي وتمنع تعريضهم للتمييز بسبب انتماءاتهم لكن كل ذلك يبقى في نطاق "المطالبة والحض والحظر" دون إلزام صارم بموجب قواعد آمره أو تدخل من مجلس الأمن وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لوقف الانتهاكات التي سبق ذكرها.