Show Menu
True Story Award 2024

مباحث.. أول سفينة علمية مصرية جابت المحيطات وعادت لتغرق على شواطئها

2 سبتمبر، 1933
صوت صافرة يملأ أرجاء ميناء الإسكندرية، ليعلن عن انطلاق سفينة لم تلفت نظر أحد من قبل. لكن اليوم اتجهت إليها كل الأنظار. فالواقفون على الرصيف من رجال وسيدات وأطفال يلوحون لركابها، والمسؤولون أتوا خصيصًا لتودعتها.
تَركت السفينة بحر الإسكندرية الذي لم تألف غيره منذ وجودها. وأبحرت نحو المحيط في رحلة طويلة لم تعهدها ولم تضمن فيها مصيرها. أعطت ظهرها للبر ومودعينها لتكشف اسمها للجميع بالعربية والإنجليزية: "مباحث".
في تلك اللحظة التي شقت فيها "مباحث" طريقها في البحر، كتبت اسم مصر ضمن أوائل الدول في مجال علوم البحار، فهي رحلة مصر الاستكشافية الأولى، الذاهبة إلى المحيط الهندي لتسعة أشهر، والتي ستمثل رابع أكبر رحلة بحرية في العالم بعد رحلات سفن "تشالنجر" البريطانية، "الفالديفيا" الألمانية، و"الدانا" الدنماركية.
وضعت "مباحث" لمصر أساس علم يدرس تلك المساحة الشاسعة اللازمة لبقائنا، والتي لم تكن معروفة إلى حد كبير، لكنها ورغم هذا الدور توقفت ثم اختفت بشكل مثير وغريب.
وفي سنوات غيابها الطويلة، لم تملك مصر بديلًا لها إلى أن حلت سفينتا "اليرموك" و"سلسبيل"، لكن برحلات قليلة وقصيرة ومحدودة. ثم تعطلت الاثنتان قرابة العشر سنوات، وعادتا مرة أخرى بمهام يتعلق بعضها بتغير المناخ، البحث عن أماكن صيد، ومساعدة شركات في مشروعات اقتصادية.
حتى يومنا هذا، قليلون هم من يعرفون ذلك العالم وأن مصر - في وقت ما - سبقت فيه أكثر الدول تقدمًا.. لكن كيف حدث ذلك؟ وما الذي جرى بعده؟ وإلى أين وصلنا؟ وما علاقة هذا كله بحياتنا؟. لكي نعرف، كان لابد أن نذهب إلى البداية، أن نحيي قصة "مباحث" ونجمع تفاصيلها المتفرقة، والتي بدت كخبيئة لرحلة لم تكن عادية أبدًا.

2 سبتمبر، 1933
صوت صافرة يملأ أرجاء ميناء الإسكندرية، ليعلن عن انطلاق سفينة لم تلفت نظر أحد من قبل. لكن اليوم اتجهت إليها كل الأنظار. فالواقفون على الرصيف من رجال وسيدات وأطفال يلوحون لركابها، والمسؤولون أتوا خصيصًا لتودعتها.
تَركت السفينة بحر الإسكندرية الذي لم تألف غيره منذ وجودها. وأبحرت نحو المحيط في رحلة طويلة لم تعهدها ولم تضمن فيها مصيرها. أعطت ظهرها للبر ومودعينها لتكشف اسمها للجميع بالعربية والإنجليزية: "مباحث".
في تلك اللحظة التي شقت فيها "مباحث" طريقها في البحر، كتبت اسم مصر ضمن أوائل الدول في مجال علوم البحار، فهي رحلة مصر الاستكشافية الأولى، الذاهبة إلى المحيط الهندي لتسعة أشهر، والتي ستمثل رابع أكبر رحلة بحرية في العالم بعد رحلات سفن "تشالنجر" البريطانية، "الفالديفيا" الألمانية، و"الدانا" الدنماركية.
وضعت "مباحث" لمصر أساس علم يدرس تلك المساحة الشاسعة اللازمة لبقائنا، والتي لم تكن معروفة إلى حد كبير، لكنها ورغم هذا الدور توقفت ثم اختفت بشكل مثير وغريب.
وفي سنوات غيابها الطويلة، لم تملك مصر بديلًا لها إلى أن حلت سفينتا "اليرموك" و"سلسبيل"، لكن برحلات قليلة وقصيرة ومحدودة. ثم تعطلت الاثنتان قرابة العشر سنوات، وعادتا مرة أخرى بمهام يتعلق بعضها بتغير المناخ، البحث عن أماكن صيد، ومساعدة شركات في مشروعات اقتصادية.
حتى يومنا هذا، قليلون هم من يعرفون ذلك العالم وأن مصر - في وقت ما - سبقت فيه أكثر الدول تقدمًا.. لكن كيف حدث ذلك؟ وما الذي جرى بعده؟ وإلى أين وصلنا؟ وما علاقة هذا كله بحياتنا؟. لكي نعرف، كان لابد أن نذهب إلى البداية، أن نحيي قصة "مباحث" ونجمع تفاصيلها المتفرقة، والتي بدت كخبيئة لرحلة لم تكن عادية أبدًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الأول
قبل الرحلة بثلاث سنوات، أتت "مباحث" لمصر في ظروف مهيأة تمامًا لاستقبالها. فالملك فؤاد الأول الذي يحكمها مُحب للبحر؛ لدرجة إنه أمر بتأسيس معهد للأحياء المائية لدراسة الحيوانات والنباتات البحرية وبحث كيفية الاستفادة منها. وبعيدًا عن كل التوترات السياسية مع القوى الوطنية، فالناحية الاقتصادية والعلمية تطورت في عهده على نحو ملفت.
لذا لم يكن اهتمامه بالعلوم خفيًا على أحد، وبالطبع على بريطانيا المسيطرة على مصر. فشجع ذلك البروفيسور جي ستانلي غاردينر (أستاذ علم الحيوان بجامعة كامبريدج) على الذهاب لوزير مصر المفوض بإنجلترا وطلب إعارة سفينة ترسو بالإسكندرية، واسمها "مباحث"، لاستخدامها في رحلة علمية هامة.
ولكي يقتنص "غاردينر" الموافقة بأسرع وقت، ألقى عرضه على طاولة المفاوضات، وهو أن تحصل مصر على جميع الآلات والأجهزة التي ستشتريها البعثة الإنجليزية لتضعها على "مباحث".
البعثة الإنجليزية التي تحدث "غارينر" باسمها هي بعثة "جون موراي"، الرجل الأهم في علم البحار والمحيطات في أوائل القرن العشرين، والذي اشترك في رحلة كانت الأولى لاستكشاف البحر في أماكن قاصية، مستعينًا بسفينة "إتش إم إس تشالنجر" عام 1872 ولمدة 3 سنوات.
ولأن "موراي" كان ثريًا جدًا، فهو بالأساس رجل أعمال، ترك وصية لابنه "جاك" بأن يخصص من مال شركته جزءًا لعمل بحوث في هذا المجال.
شَرع الابن في تنفيذ وصية أبيه واتفق مع "غاردينر" أن يكون مسؤولًا عن تنظيم بعثة استكشافية سيخصص لها 20 ألف جنيه إسترليني وتسمى باسم والده.. قررا معًا أن يكون مقصدها هو المحيط الهندي، ثم وقع اختيارهما على "مباحث"، التي صنعتها الشركة الإنجليزية "سوان هنتر".
ولما سأل أحد المراسلين في مصر البروفيسور "غاردينر" فيما بعد: "كيف وقع اختياركم على مباحث؟"، قال: "سمعنا عنها ووجدناها تصلح لهذا الغرض.. كما أننا نعرف شهرة الملك فؤاد بعطفه على الأبحاث العلمية.. وكان لدينا ثقة بأنه إذا خطبنا الحكومة المصرية سنجد القبول".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنفوجرافيك
السفينة مباحث
بنتها شركة "سوان هانتر" الإنجليزية عام 1930
سفينة كبيرة بمحرك بخاري للصيد وشباك جر
طولها 43 مترًا
عرضها 7 أمتار
عمقها 4 أمتار
غاطسها ثلاثة أمتار ونصف
صافي حمولتها 103 أطنان
تسلمتها مصلحة خفر السواحل ومصائد الأسماك المصرية
عملت (قبل الرحلة) في حراسة السواحل ومكافحة التهريب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صَدق توقع "غاردينر" ووافقت مصر على إعارتهم "مباحث"، لكن بشروط: إخلاء مسؤوليتها من أي مشكلة سياسية تنشأ عن أعمال البعثة، رفع العلم المصري على السفينة بجانب "البريطاني"، تأمين سلامة السفينة وركابها، أن يتضمن الطاقم العلمي مصريين اثنين أحدهما من مصلحة خفر السواحل والآخر من كلية العلوم، إلى جانب الحصول على جزء مما ستجمعه البعثة من نماذج ونسخة من التقارير التي ستصدرها.
لبَت البعثة كل الشروط المصرية، وستقوم "مباحث" العاملة في حراسة الساحل، بدور جديد عليها كدراسة كيمياء مياه المحيط وقاع البحر وأحيائه.
كان ذلك في وقت لم تعرف فيه مصر سوى "بحوث مصايد الأسماك"، التي تولى الإنجليزي "ويمبيني" أمورها عام 1927، وهو من صاغ برنامجًا للبحوث بمجموعة علماء بريطانيين ومصريين، البرنامج الذي أتى بـ"مباحث".
خَلف "ويمبيني" في المنصب حسين فوزي عام 1931، وهو في الأصل طبيب عيون، وصار بدوره عضوًا بالطاقم العلمي في رحلة "مباحث". وقبل المغادرة، التقى "فوزي" وأفراد من الطاقم بالملك شخصيًا، وأقام لهم مدير عام مصلحة خفر السواحل ومصائد الأسماك حفلة شاي على ظهر الطوافة "الأميرة فوزية"، دعا إليها الوزراء ومحافظ الإسكندرية وكبار الموظفين.
وبعد انتهاء هذا الحفل تفقد محمد شفيق باشا (نائب رئيس الوزراء) السفينة وأجهزتها، ليجد أن "مباحث" باتت جاهزة لرحلتها الطويلة التي لم تخض مثلها من قبل، فهي لم تنشأ إلا لقضاء 15 يومًا فقط في البحر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنفوجرافيك: مباحث من الداخل
⮚ كبائن سكن (مؤخرة السفينة)
⮚ قمرتان للقومندان وعامل اللاسلكي
⮚ 3 حمامات ومطبخان
⮚ معملان؛ كيميائي وبيولوجي
⮚ غرفتا مائدة تحولتا لمكان سكن
⮚ في وسط السفينة:
⮚ عنبر مقسم إلى:
⮚ مخزن للفحم
⮚ غرفة تبريد لحفظ الأغذية
⮚ مخزن للشباك والأدوات والأواني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنفوجرافيك: شخصيات الرحلة
● سيمور سويل رئيس البعثة
● حسين فوزي عضو الطاقم العلمي
● عبد الفتاح محمد المعيد بكلية العلوم
● طومسون وماكان وجيلسون، خريجا جامعة كامبريدج
● الكابتن ماكنزي، قومندان السفينة
● كوماندور فاركسون، ضابط الملاحة
● الملازم أول أحمد بدر، والملازم أحمد ثروت، من إدارة البحرية بمصلحة خفر السواحل
● مستر لويد جونس، عامل لاسلكي
● المهندس جرجس، والملازم محمود مختار، والملازم إدوارد مرق، مهندسان
● 24 عاملا من بحرية مصلحة خفر السواحل وطباخ وسفرجي ونجار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فور تحرك السفينة، تفرق الجميع يمينًا ويسارًا وتداخلت أصواتهم المصرية والإنجليزية مع صوت "طقطقة" الأخشاب. وضعوا حقائبهم في الكبائن الضيقة، ورتبوا الأدوات والمعدات في المنتصف.
بَعدها، اجتمع "فوزي"، الإسكندراني ذو الـ33 عامًا، مع سيمور سويل (رئيس البعثة ومدير متحف التاريخ الطبيعي بالهند) والذي يكبره بعشرين عامًا، و"طومسون" و"ماكان" و"جيلسون" (الأساتذة في جامعة كامبريدج)، وعبد الفتاح محمد (المعيد بكلية العلوم بالجامعة المصرية)، والكابتن ماكنزي (القومندان) لمراجعة محطات الرحلة والمواقع بأرقامها.
أربعون شخصًا على متن "مباحث" الصغيرة، يختلفون في كل شيء، حتى إن ذلك يبدو واضحًا من وجوههم وكلامهم، لكن ربما ما يجمعهم غير السفينة هو أن لا أحد منهم يدرك بالضبط شعوره في هذا اللحظةّ. فهم خائفون ومتحمسون في آن واحد.
في البداية، مروا سريعًا على بورسعيد ثم السويس ثم الغردقة، ونزلوا بالأخيرة لزيارة محطة الأحياء المائية في ضيافة "كروسلاند" (مدير المحطة).
ستترك "مباحث" أثرها في نفس هذا الرجل، وربما تمنى أن يكون ضمن طاقمها، ذلك ما سيظهر لاحقًا.
عدن – باب المندب – 22 سبتمبر
في المساء، اتجهت "مباحث" نحو عدن، ومنها إلى منطقة بحثها الأولى "باب المندب" في البحر الأحمر.
دائمًا ما تكون أولى المحطات هي أصعبها. التوتر ظاهر على الكل سواء الأساتذة المرتدين القمصان المهندمة، أو البحارة عراة الصدر الواضعين "الطاقية" فوق رؤوسهم.. فهي لحظة، يتعرف فيها كل منهم على عمل الآخر. ولا بديل غير أن يمتزج ويتعاون هؤلاء الواقفون على الرافعات ممسكين بالحبال، والآخرون حاملين الأدوات والأجهزة العلمية.
ولم تكن الأجواء حولهم مريحة على الإطلاق، فسطح "مباحث" مزدحم بالمعدات، فامتلأت بأكثر من طاقتها بثلاثة أضعاف، وحملت فحمًا إضافيًا؛ لذا كانوا يتناولون طعامهم على دفعتين لصغر مساحة غرفة الطعام. كما أن تنقّلهم كان صعبًا وخطيرًا في كثير من الأحيان.
وحده حسين فوزي كان يشغله شيء آخر. فيقول في إحدى مذكراته للإدارة بمصر: "كنت أخشى سلوك الموجودين على السفينة.. فقد تجمع أشخاص لا يجمعهم جنسية أو ثقافة أو لغة".
رغم كل ذلك، مرت المحطة الأولى بنجاح، وجُمعت العينات المطلوبة في الوقت المحدد لها. لكن صَادفت السفينة أولى مشاكلها بعد مغادرتها؛ حيث تعطل جهاز التبريد بها وفسدت الأسماك واللحوم وألقوها في البحر. فاعتمد طعامهم لفترة على الخضروات فقط.
وعندما حاول المهندس جرجس (مهندس السفينة) إصلاحه، تنشق غاز "كلورور الميتيل"، وظل نائمًا في حالة تخدير؛ ما اضطر "فوزي" إلى تغيير جدولهم والعودة إلى عدن مرة أخرى، حيث بقى "جرجس" في مستشفاها ثلاثة أيام.
خليج عدن - 2 أكتوبر
أبحرت "مباحث" مجددًا متجهة إلى عدة نقاط في خليج عدن قرب الشاطئ الإفريقي، ومنه خرجت إلى عرض المحيط الهندي، ثم عادت إلى الخليج مرة أخرى قرب شاطئ جزيرة العرب. ولطالما احتاجت السفينة الصغيرة إلى رعاية، فعادوا بها إلى عدن، ليستغل نجارها الوقوف ويصلح بدنها قدر الإمكان، ويأتي مهندس ليفحص "طبلة الونش" التي تلفت نتيجة سرعة لم تتحملها.
صحيح أن الجو كان لطيفًا في هذه الرحلة خاصة في المحيط، إلا أنهم وجدوا مشاق أخرى لقلة الغذاء ورداءته، فكان قوامه لحوم بضعة رؤوس هزيلة من الغنم، أخذوها حية على ظهر السفينة، ليذبحوا منها رأسًا كل يومين.
كراتشي - 10 نوفمبر
تَحمل الطاقم كل هذا. قضوا ليالي صعبة. وبوصولهم ميناء كراتشي (أكبر مدن باكستان)، باتت وجوه العمال المصريين كلها مغبرة بالفحم، لكنهم ظلوا مبتسمين. وقتها تبدد كل خوف "فوزي" تجاه سلوكهم. فيقول إنهم "تحلوا بالصبر وكانوا مطيعين للأوامر ومنظمين وتحملوا سوء الغذاء والمشقة".
كما تناوب الضباط والمهندسون على ورديات كل أربع ساعات بلا كلل. وازداد نشاط المعامل مع جلب المزيد من العينات، حتى إن "فوزي" عمل كثيرًا بيديه؛ لذا اعتبر أن "رحلة عدن – كراتشي هي أكثر الرحلات توفيقًا لهم حتى الآن".
ويقول في مذكرته من هناك: "إذا سارت الرحلات القادمة بهذا الشكل، سيقال إن بعثة جون موراي كانت من أعظم الرحلات وأكثرها نشاطًا وإنتاجًا".
تسارعت وتيرة العمل في "مباحث" عند خليج عدن والبحر العربي، وربما غطى ذلك على مشاعر ساكنيها وتأثرهم بالغربة وفراق أهلهم لشهرين. فالجميع كان ينتظر لحظة الذهاب إلى فراشه ليقتنص بعض ساعات النوم ويستعيد قوته في اليوم التالي.
خليج عمان - 8 ديسمبر
في نهار يوم 8 ديسمبر، أبلغهم الكابتن ماكنزي، القومندان الثلاثيني، أنهم وصلوا خليج عمان، حيث منطقة بحثهم الجديدة حتى مدخل الخليج الفارسي. رست "مباحث" ليلة في مسقط (عاصمة عمان). وكلما وصلت إلى ميناء، جرى عمالها إلى أقرب سوق لينفقوا ما لديهم من مال لشراء طعام إضافي، في وقت كان البَحري الواحد يحصل على 120 درهمًا كـ"تعيين خبز" (كما اسموه) من مصلحة خفر السواحل المصرية.
لم تستغرق تلك المنطقة منهم سوى يومين، لتقطع "مباحث" عرض المحيط الهندي من الهند إلى إفريقيا، وتعبر خط الاستواء، في منطقة بحث هي الأكبر حتى الآن.. تجاوز عدد محطاتهم بعدها المائة.
نيروبي - 1 يناير
دامت تلك الرحلة 19 يومًا حتى وصلوا إلى "نيروبي" (عاصمة كينيا)، أُجهد البحارة في محاولة رفع البخار للدرجة المطلوبة؛ لأن الفحم الذي زودوا به في توقفهم الأخير كان رديئًا، كما حلت عليهم رأس السنة، ولم يكن مألوفًا لأحد من المصريين قضاء مثل هذه الأوقات بعيدًا عن أهله بل وفي عرض البحر.
شعروا بالغربة بحق كلما مرت عليهم مناسبة، لكن الملفت هو انسجامهم مع الفريق الإنجليزي؛ إذ ذكر "فوزي" أنه سمع ذات يوم من أحدهم عبارة: (متكسوفناش قصادهم) مخاطبًا زملاءه. لكن في الوقت نفسه، وصل إليه تفكيرهم في أمر ترقيتهم الذي وعدتهم به المصلحة قبل سفرهم؛ لذا أبلغ الإدارة بأهميته في كل مراسلاته معهم.
في تلك الأيام، كان "فوزي" مبتهجًا بشدة لحصول البعثة على نتائج علمية مهمة جدًا كدراسة طبقات البحر حتى عمق خمسة آلاف متر، كذلك أحياء الأعماق البعيدة.
لكن سعادتهم لم تدم طويلًا، وانقلب الوضع في ليلة واحدة، إنها ليلة 16 يناير.
في تلك الليلة المشؤومة، ضَرب المرض "مباحث" وأصيب طاقمها واحد تلو الآخر. بدأ الأمر بحالات حمى مختلفة العوارض، وبما أن "فوزي" هو طبيب البعثة، فشخص حالة أحدهم بأنها ملاريا، واشتبه في أخرى، وفعل ما في وسعه لعلاجهما. فيما اشتدت الحالة على اثنين آخرين، ليطلب "فوزي" من الكابتن الذهاب سريعا إلى زنجبار (جزر بالمحيط الهندي تابعة لتنزانيا) ليدخلا المستشفى هناك.
زنجبار - 18 يناير
وفي بحر بارد ومتقلب، كُسر السير الهادئ للسفينة أثناء ذهابها إلى "زنجبار"، فالتيارات اشتدت على "مباحث". استدعى الكابتن ماكنزي خبرته، فتعامل مع الأمر وقلل سرعتها. وعند وصولهم، كان المرض امتد لآخرين.
هناك، استغل "سيويل" (رئيس البعثة) التوقف، وألقى محاضرة أمام جمهور غفير تحدث فيها عن البعثة، وبالطبع عن "مباحث". وقتها، تمنى "فوزي" لو أن البعثة مصرية فقط، ونظموا محاضرات وصورًا سينمائية عن مصر، كما فعلت البعثة الدنماركية على ظهر السفينة "دانا"، والتي زارها في تونس وسمع منها محاضرة عن الدنمارك، لا عن البعثة.
وبعدما انتهت هذه المحاضرة، استكملوا عملهم حول بحر هذا البلد.
فاجأهم مرة أخرى بعد التحرك، مَرض أحد البحارة وأنه يعانى من آلام حادة في البطن. وحين عادوا بعد 6 أيام إلى زنجبار دخل وثلاثة آخرون المستشفى. لم يكن أمر هذا الرجل هينًا، فرأى "فوزي" أنه حتى لو تحسنت حالته، فيمكن أن يتعرض لوعكة أخرى لا حل لها في البحر، لأنها قد تحتاج إلى عملية جراحية، لذا قرر إبقاءه ليعيده أحد متعهدي البعثة إلى الإسكندرية بعد استقرار وضعه، وأبلغ الكابتن ماكنزي أن يختار بديلًا له من زنجبار.
ليس هذا البَحار الوحيد الذي فقدته "مباحث" حين غادرت زنجبار، إنما بقى واحد أخر بالمستشفى، لكنه سيلحق بهم في محطتهم التالية "كولومبو" (عاصمة سريلانكا).
عندما حان وقت الرحلة القادمة، دَب القلق والارتباك في "مباحث"، وكأن حالة طوارئ مفاجئة أعلنت عليها، فاتجهت إلى جزيرة سيشل لشحن فحم إضافي، وتلقى طاقمها "أملاح الكينا" كعلاج وقائي من الملاريا.
كل تلك الاستعدادات لأن بانتظارهم رحلة طويلة أخرى في عرض المحيط، لا بر قريبًا لها، كما أن الرياح لن تكون معهم. وقد أصبحت "مباحث" منهكة بعد عمل خمسة أشهر بلا انقطاع تقريبًا.
كولومبو - 22 فبراير
للمرة الثانية، تعبر "مباحث" المحيط الهندي، وعلى عكس توقعاتهم، مرت بسلام ولم تعقهم الرياح إلا في الأيام الأخيرة، لكنها لم تمنع سيرهم والوصول إلى كولومبو. والأهم أنهم اكتشفوا في طريقهم سلسلة جبلية في قاع البحر، وهي المرة الثالثة التي تكتشف فيها البعثة حواجز جبلية بواسطة جهاز قياس الأعماق الذي يديره "فاركسون" (ضابط الملاحة).
وبينما تحسنت صحة المرضى واستعاد الآخرون صحتهم بعد راحة لأسابيع في المدينة، كانت الحالة النفسية سيئة.
في يوم، مَشى حسين فوزي باتجاه غرف مبيت رجال البحرية كعادته ليتفقد أحوالهم. تحدث معهم، ولم ينجحوا في إخفاء إحساسهم بالضيق تجاه الإمكانيات الضعيفة المتوفرة لهم وسوء التغذية.. صمت "فوزي" أمام أحاديثهم المتناثرة، وبدا أن كل ما يقولوه ليس مفاجئًا له، بل تذكر السفينة الحربية الفرنسية التي رآها في ميناء كولومبو عندما وصلوا، وانتبه إلى صالونها المتسع المزود بالمراوح الكهربائية والموائد.
وجد نفسه يقارن بينها وبين "برطوز" البحرية على ظهر "مباحث" وهو مكان أكلهم ونومهم وجلستهم.. وتساءل في داخله ثم في مذكرته: "هل كان سيكلفنا كثيرًا أن نمدهم ببعض المراوح الكهربائية؟".
لم يسترح هؤلاء الرجال، لكن في المقابل استراحت "مباحث"؛ إذ بدأ فحصها وعلاجها ودهانها. وبعد نحو شهر، غادرت كولومبو قاصدة جزر منها "المالديف"، بهدف دراسة الشعاب المرجانية.
كانت مدة الرحلة هي الأطول في البحر، حيث بقوا 28 يومًا بزيادة ثلاثة أيام عن وقتها المحدد في جدولهم، التقوا بسلطان "المالديف"، الذي أعارهم سفينة شراعية. وكما هو الحال في الزيارات الرسمية بالدول التي تمر عليها "مباحث"، يكون "فوزي" ممثلا لمصر، و"سيويل" للبعثة، و"فاركسون" للبحرية البريطانية.
وخلال تلك الأيام أيضًا؛ استغل الملازم أحمد بدر، وهو من الإدارة البحرية بمصلحة خفر السواحل، غياب ضابط الملاحة "فاركسون" ليتسلم أعماله ويستخدم جهاز قياس العمق. ولم يؤد مهمته على أكمل وجه فحسب، إنما كشف بجهاز قياس الأعماق عن هضبة مغمورة، فأطلق عليها "سيويل" (رئيس البعثة) اسم الملك فؤاد، وأرسل فعلا للسراي يستأذنها في التسمية.
مرة ثانية، عادوا إلى كولومبو. وفي محاضرة لكولونيل "سيويل" هناك، دار حديثه عن البحارة المصريين: "مع أنهم لا يعرفون الإنجليزية ولا العلماء الإنجليز يعرفون العربية فقد عمل الجميع سويًا لا بحماس فقط لكن بروح المرح أيضًا".
فبالتأكيد لاحظ "سيويل" توطد العلاقة بين الفريقين الإنجليزي والمصري، بعكس العلاقة السياسية خارج البحر؛ حيث كثرت أحاديثهم عن كل شيء، ومنها على سبيل المثال فكرة رفض البحارة المسلمين شرب الخمر. كما التقط البريطانيون كثيرًا من الألفاظ المصرية خاصة ذات العلاقة بالبحرية. فذات يوم، فاجأ أحدهم الجميع وأعطى أوامره بلغة مصرية، وهو ما أغرقهم في الضحك لركاكة نطقه.
وفي وصف "فوزي" للحياة التي نشأت على ظهر "مباحث" قال باختصار: "الجميع صاروا أسرة واحدة".
عدن - 8 مايو
باقتراب رحلة "مباحث" من نهايتها، هدأت الحركة عليها في طريق عودتها إلى نقطة البداية "عدن". إنها فرصة لالتقاط الأنفاس، حيث جلس أفرادها بأجسادهم المتعبة ليحدقوا في البحر ويستمتعوا به قليلا. وفجأة وقع حادثان من شأنهما أن يحولا الأجواء والرحلة كلها إلى كارثة.
قطيع من القروش في خليج عدن جاء ليُفسد المنظر عليهم ويحيط بالسفينة من كل ناحية.. تأهب العمال في لحظة بلغ خوفهم أقصاه، فأغلبهم لم ير قرشًا واحدًا من قبل. لكن ضباطها تعاملوا معهم وأطلقوا أكثر من أربعين رصاصة، قتلوا بها 18 قرشًا، وتمكنت "مباحث" من الإفلات منها.
بعد مرور بضعة كيلو مترات، هدأ ساكنوها وعاود بعضهم العمل كعبد الفتاح محمد (المعيد بكلية العلوم)، الذي مال بجسده بشدة ليأخذ نماذج من الماء، ثم سقط فيها.
صَرخ الشاب طالبًا النجدة. هرع الجميع ناحيته، لأنه لا يجيد السباحة، وزاد أمره مأساوية، أن عمق البحر حينها بلغ 1000 متر، ومازالوا في المساحة المزدحمة بالقروش.
لكن لحُسن حظه، كان القارب الملحق بالسفينة في الماء وقتها، وعليه البحريان الماهران محمد السلامي وأحمد يوسف ينظفان جوانبها.. فألقيا بنفسيهما لإنقاذه، والتقطه الآخرون.. وحين صعد على ظهر السفينة، قال له الكابتن "ماكنزي" بالإنجليزية: "أنت مدين للبحرية المصرية بحياتك".
استقرت "مباحث" لأيام قليلة في ميناء عدن. وثمة تقليد متبع للسفن الراسية في الموانئ، جعل "مباحث" تتزاور مع طواقم السفن الفرنسية، البريطانية، والإيرانية.
وقد حظيت السفينة المتواضعة والتي كانت "عادية" في السابق بسمعة طيبة وشهرة واسعة. فما إن تحل في ميناء أي بلد، إلا ويفد عليها مراسلو الجرائد المحلية والزائرون العاديون أيضًا لمشاهدة معملها ونماذج الحيوانات والنباتات في أوانيها. وأبدى جميعهم تعجبهم من قدرة طاقمها على البقاء واجتياز مخاطر عبور المحيط.
وبينما، لم يجد حدث "مباحث" موقعًا في الصحف المصرية إلا قليلًا، كانت الصحف البريطانية والأوروبية مهتمة بنشر أخبار البعثة. عَرف "فوزي" ذلك من كم الرسائل التي وصلت إليهم من زملائهم في دول أوروبية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنفوجرافيك
بعثة السفينة مباحث
200 يوم قضتها في البحر
70 يوما في الموانئ
209 محطة بحث مرت عليها
22 ألف ميل بحري قطعتها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأخيرًا، وصلت "مباحث" مصر. نزل طاقمها في السويس قليلا، ثم قضوا مساءهم في الإسماعيلية، وتوجهوا إلى بورسعيد في الليلة التالية، وبها، أقام لهم مدير إدارة السواحل الشرقية في بورسعيد حفلة شاي في منزله. وعقب الحفلة مباشرة، أخذت "مباحث" طريقها إلى الإسكندرية، وحين اقتربت منها صادفها لنش بشكل مفاجئ.
هذا اللنش يعد أحد لنشات مصلحة خفر السواحل، وعليه مهندسون، انتقل أحدهم إليها ليفحص آلاتها.
الإسكندرية - 25 مايو
عند الساعة الثانية إلا ربعًا بعد الظهر، كان 300 شخص تقريبًا يحتشدون على رصيف الميناء في انتظار "مباحث" بينهم نجل جون موراي بنفسه، الذي يمكنه أن يقول الآن إنه نفذ وصية أبيه.. بجانبه زوجة القومندان "ماكنزي" التي جاءت من إنجلترا للتو، والأميرلاي فؤاد بك، مدير مصلحة خفر السواحل، وغيرهما من المسؤولين. في هذا الوقت، كان مندوب المصلحة يجري بـ"مباحث" رحلة تجريبية في العجمي لاختبارها، ووجد أن حالتها جيدة إلى حد كبير؛ باستثناء أشياء تلفت مثل الونش وقطع أسلاك.
وبحلول الرابعة ظهرًا، جاءت "مباحث" للمكان نفسه الذي غادرته قبل 9 أشهر، وسط تهليل الواقفين على الرصيف.. هَبط كل من عليها في حالة سعادة ممتزجة بذهول، وفي داخلهم الكثير من الحكايات: "لقد عبرنا المحيط مرتين وعدنا مرة أخرى!". وإن كانت "مباحث" تستطيع الحديث لقالت مثلهم، فالسفينة التي لم يتنبأ لها أحد أن يتخطى دورها حراسة الساحل المصري، جابت المحيط والبحار شرقا وغربا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"كتبت مباحث اسمها في تاريخ علوم البحار بجانب تشالنجر والفالديفيا والدانا.. وخطت مصر اسمها بين دول ذات سبق في دراسة المحيطات"
حسين فوزي
"لقد بلغت خدمات الضباط والبحارة مستوى عاليا من الكفاءة وحافظوا على التقاليد التي تشرف العلم المصري في البحر.. وأعتبره شرفا عظيما أني خدمت تحت هذه الراية"
القومندان ماكنزي في تقريره لمدير مصلحة خفر السواحل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحفلات كانت في انتظار القادمين. أما "مباحث" فدخلت "الحوض الجاف" للسفن لفحص الجزء الغاطس بها. وبينما يحدث ذلك بدأ تفكير مسؤولي البعثة في نتائجها المقرر إعداد تقارير بها، والتي يقول عنها حسين فوزي "إنها ستحتاج إلى أعوام طويلة وتوزيع النتائج على أخصائيين كثر".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"أرى أن هذه الرحلة الاستكشافية من المرجح أن تحتل المرتبة الثانية من حيث الأهمية بعد تشالنجر لأنها ستقدم الكثير. مما يتطلب مزيدًا من التحقيقات في الـ25 أو 50 عامًا القادمة"
ستانلي جاردينر بعد عودته من الإسكندرية (يونيو 1934)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد العودة بـخمسة أشهر، تواصل نجل موراي مع أمناء متحف التاريخ الطبيعي في لندن لنشر تقارير ونتائج البعثة. وبالفعل، اتفقوا وتولى مسؤولوه نشرها لسنوات، وكانت الأوراق بين يدي شخصين أساسيين هما "سيويل"، ودكتور "كالمان" (المتخصص في علم الحيوان)، حسب تصريحات "جاردينير" لاحقًا.
" سيويل"، الذي انتخب عضوًا في المجمع العلمي البريطاني بعد عودته، ظل لنحو 26 عامًا ينشر أكثر من 7000 صفحة بلا كلل ولا ملل حتى تقاعد، وفقا لما يذكره سليم مرقص (أستاذ علوم المحيطات بجامعة الإسكندرية) في مقال له.
بالتأكيد الأمر يستحق. لقد خرجت "مباحث" بعدد كبير من الاكتشافات الهامة مثل نظام تبادل كتل المياه والتيارات البحرية، منطقة خالية من الحياة في بحر العرب، وبضعة مناجم. وقد ظلت هذه الاكتشافات وغيرها ولفترة طويلة، هي كل المعلومات المتاحة عن المنطقة.
أما العينات التي التقطتها، فبحسب مقال سليم مرقص ومنشورات علمية أخرى، محفوظة في متحف التاريخ الطبيعي. لكن الشيء الغريب هو أن بتواصلنا مع متحف التاريخ الطبيعي في لندن قبل أيام، ذكرت مسؤولة أرشيفه أنه "لم يعد يحتوي على أي عينات خاصة بالسفينة مباحث"، ولم يُعلن أن مصر حصلت على جزء منها كما كان متفقًا عليه وقت إعارتها.
لم تنته قصة "مباحث" عند هذا الحد، بل إنها ازدادت إثارة ودراما حتى حل جانبها المظلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"تأثير الرحلة في مصر كان كبيرًا، حيث كانت بمثابة حافز لتطوير علوم البحار ودفع العديد من المشاركين إلى وظائف ناجحة"
توني رايس - معهد علوم المحيطات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الثاني
في شتاء 1934، ذهب دكتور "بنجهام" (عميد كلية العلوم بالجامعة المصرية) للمسؤولين بمصلحة خفر السواحل ومصائد الأسماك، حاملًا أوراقًا بها اقتراح أن تخرج "مباحث" في رحلة استكشافية ثانية، لكنها ستكون مصرية خالصة، وفي نطاق أضيق ومدة أقل.
صَدى رحلتها الأولى لايزال عاليًا وسَيطر على مناقشتهم، فتحمسوا جميعًا للقيام بذلك مرة أخرى، شيء واحد فكروا به وهو التكلفة. وفي النهاية، خَصصوا لها 2500 جنيه مصري، على أن يتأجل تطويرها الذي سيتكلف وحده 1500 جنيه أخرى.
البحر الأحمر هو وجهة "مباحث" هذه المرة، ولم يكن جديدًا عليها، لقد مرت عليه في رحلتها السابقة، لكنها لم تتوسع فيه.. وفي ظهر يوم 18 ديسمبر، تحركت باتجاهه، حيث السويس، ثم بوسعيد، وأخيرًا الغردقة.
وفي هذه الرحلة، كان الفريق جديدًا بأكمله؛ عدا عبد الفتاح محمد، الذي أصبح أستاذًا للكيمياء الطبيعية. وربما كان متوقعًا لهم من سيترأس الفريق. إنه دكتور "كروسلاند"، الرجل الذي استضاف "مباحث" وطاقمها في الغردقة خلال رحلتها الأولى، وأعجب بها بشدة.
سُرعان، ما انقضت هذه الرحلة، وجلبت نتائج ومعلومات مثيرة أيضًا عن البحر الأحمر. ولعل الأهم، كان الزخم الذي خلقته "مباحث" برحلتيها، والذي فرض أن ما بعده يجب ألا يكون كما قبله.
فانتهز الفرصة حسين فوزي (عضو رحلتها الأولى ومدير مصلحة مصائد الأسماك)، وعبد الفتاح محمد (العامل المشترك في الرحلتين)، وأسسا قسم علوم البحار بكلية العلوم في جامعة الإسكندرية عام 1948، وهو أول قسم من نوعه في العالم العربي.
لم تكن مفاجأة أن تدخل مصر مجال علوم البحار على متن "مباحث" وبقوة شديدة حتى صار له مناهج ودراسات، لكن المفاجأة هي ما حدث بعد ذلك، تحديدًا عام 1953.
ذهب الملك بلا رجعة. وواصلت مصر مفاوضاتها لإنهاء تبعيتها لبريطانيا تمامًا. تغير وجه كل شيء فيها سياسيًا واجتماعيًا ومؤسسيًا حين حل المصريون محل الأجانب. لكن هذا التغيير لم يأت في مصلحة "مباحث" على الإطلاق.
فانتهت رحلتها مع المجال العلمي بشكل مؤسف، لتعود إلى مهامها القديمة وتنخرط في أعمال التموين والتفتيش.
رَست في الميناء الغربي بالإسكندرية رسوًا غير طيب أدى إلى إهمالها. وفيما بعد، انتقلت ملكيتها إلى وزارة البحث العلمي عام 1965 على أمل استخدامها مرة أخرى في أعمال البحوث، لكنها صارت متهالكة وغير مستعدة لذلك؛ إذ كانت تحتاج إلى تجديد شامل حال دون إتمامه قلة المال.
في العام نفسه، جاء شاب يدعى حسن البنا من محافظته "الدقهلية" إلى الإسكندرية ليلتحق بقسم علوم البحار، الذي أراده بشدة وفضله عن كلية الطب: "أحببت البحر من زيارتنا لرأس البر، ثم قرأت عنه، وبالطبع عن رحلتي مباحث، ففعلت كل ما في وسعي لأكون في هذا القسم".
لكن "مباحث" التي ألهمت "البنا" ودفعته نحو هذا القسم، تموت ببطء في وقت انتبه فيه العالم إلى علوم البحار، فتأسست لجنة اليونسكو الدولية لعلوم المحيطات عام 1960، وخلال سنوات الستينات الأولى، جالت المحيط الهندي 45 سفينة مختصّة في البحوث، حاملة أربعة عشر علمًا مختلفًا، ليصعد نجم دول أخرى كالولايات المتحدة، اليابان، والهند.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنفوجرافيك
أهمية البحار والمحيطات
نحو 72% من سطح الأرض تغطيه المحيطات
تحتوي على الأحياء البحرية وهي جزء أساسي للحياة
50 % من الأكسجين اللازم للبقاء تُفرزه العوالق النباتية البحرية
30 % من ثاني أكسيد الكربون تمتصها
تقوم بتنظيم المناخ والحرارة
يُقدر النشاط الاقتصادي العالمي المرتبط بها بين 3 إلى 6 تريليونات دولار
90 % من التجارة العالمية تنقل بحرا
95 % من مجموع الاتصالات في العالم تَنقلها الكابلات البحرية
أكثر من 30% من إنتاج النفط والغاز يستخرج من البحار
5 % من الناتج المحلي في العالم تشكله السياحة الساحلية
المصدر: الأمم المتحدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مرات عديدة، يمر فيها حسن البنا وزملاؤه على "مباحث" المُهملة والمائلة. ينظرون إليها بعين حسرة وعجز، ثم يمضون في طريقهم ويستقلون مَركبًا آخر صغيرًا مستقرًا أمام القسم، أخد نفس اسمها، وصار مخصصًا للتدريبات العملية لطلاب القسم القلائل، والتي لا تتعدى الشواطئ المحيطة.
ومثلما يفعل القسم، فَعل معهد علوم البحار، الملاصق له بمنطقة قايتباي، والذي أسسه الملك فؤاد قبل رحلة "مباحث" الأولى بـ15 عامًا، فاعتمد على تأجير مراكب كلما خرج في مهمة، ولم يعد يملك سفن بحثية كبيرة.
تغيرت الموازين ولم تأت الرياح بما تشتهي السفن. ويعتبر حسن البنا "أن الفارق كله بين وقت رحلتي مباحث وهذا الوقت يكمن في قلة الشغف والاهتمام، ثم ضعف الإمكانيات، وبالتالي صغرت الأعداد والمهام والطموحات".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنفوجرافيك
المعهد القومي لعلوم البحار
عام 1918 تأسس باسم المعهد السلطاني للأحياء المائية
يعرف الآن بالمعهد القومي لعلوم البحار والمصايد
له أربعة فروع: الإسكندرية، السويس، القناطر، والغردقة
تحددت مهامه في حماية وتنمية المسطحات المائية ومواردها
تتركز أبحاثه في التغيرات المناخية وطرق الصيد والتلوث
572 باحثا يعملون به
المصدر: الموقع الرسمي للمعهد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قرابة الثلاثين عامًا مرت على هذا الحال، عايشت مصر خلالها ثلاث حروب، ومعها لم تستطع فعل أي شيء لـ"مباحث" أو علوم البحار في المجمل، حتى حلت ذكرى رحلتها الخمسين.
ندوة ضخمة ذاع صيتها في دوائر العلماء والمهتمين، نظمتها اليونسكو في إحدى قاعات المؤتمرات بالإسكندرية إحياءً لرحلة "مباحث" الفريدة؛ وترأسها حسين فوزي بنفسه، وقد بلغ الـ83 من عمره.
بملامح أجنبية وعيون زائغة؛ جَلس أحد الباحثين العاملين في معهد المحيطات ضمن مقاعد الحضور التي شملت 93 من علماء البحار يمثلون دول مختلفة. انتظر الرجل حتى لفظ "فوزي" اسمه في الميكروفون: "توني رايس"، ليصعد إلى المنصة وداخله قدر كبير من التوتر والسعادة.
ناقش "رايس" رسالته بعنوان "تحدي أعماق البحار، رحلة جون موراي/ مباحث إلى المحيط الهندي"، والتي استند فيها على رسالة غير منشورة كتبها القائد "سيويل"، ووضعت في متحف التاريخ الطبيعي بلندن.
إنها فرصة ذهبية بالنسبة لـ"رايس"، حسبما يحكي، فقد تمكن من الحديث إلى حسين فوزي واثنين من العلماء البريطانيين من البعثة الباقين على قيد الحياة، وهما الدكتور جيلسون وماكان، لقد تحول ثلاثة من الشخصيات التي كتبت عنها في الرسالة إلى لحم ودم أمامه.
لكن الشيء الوحيد الذي أحزن "رايس" حينها، هو أنه أثناء حديثهم عن "مباحث" وأهمية رحلتها، كانت السفينة العجوز "في حالة يرثى لها بالميناء" – كما يصفها. وربما عزاه فكرة تحويلها إلى متحف، التي يجري مناقشتها، لكنه سيبدو أملا زائفا.
مصر في الثمانينات كانت تشغلها أشياء أخرى: استفتاء يقر حسني مبارك رئيسا لها بعد اغتيال "السادات"، ثم فترة ولاية ثانية له تستقر فيها الأمور نسبيا، ثم مواجهة مع التطرف والإرهاب، فلا مجال للاهتمام أكثر بالتعليم والبحث العلمي.
3 سنوات بعد الندوة دون جديد يجري في حياة مباحث غير أنها صارت تابعة لجامعة الإسكندرية. استولى اليأس على كل من تحدث عن إنقاذها، لقد "صارت في حالة غرق وليس طفوًا"، بحسب اللواء رضا حلمي (مدير إدارة الإنقاذ بالبحرية آنذاك). لكن يوم جاء وأيقظت من غفوتها الطويلة.
فانتقلت بصعوبة من مكانها بالميناء الغربي إلى أمام نادي اليخت بالميناء الشرقي، وهو أمر تكلف مليون جنيه تقريبا -بحسب عبد السلام شلبي (عميد كلية العلوم وقتها)، لكنها هناك ستكون في مأمن من النوات والتيارات إلى أن تتحول إلى متحف سياحي، المشروع الذي اعتمدت له اليونيسكو 30 ألف دولار كبداية.
تَحمس حسن البنا كثيرًا حين خرج من قسمه "علوم البحار"، ليشهد تلك اللحظة. كان في هذا الوقت مشاركًا في أنشطة بحثية مولتها دول أجنبية والأمم المتحدة للعمل في سواحل البحرين المتوسط والأحمر، تبين له من خلالها كم من دول زاحمت مصر في هذا المجال، وأن بعضها تخطاها.
الصورة التي أراد أن يلمح لها "البنا"، يكملها حديث لخميس عبد الحميد (الأستاذ بمعهد علوم البحار) في ديسمبر عام 1986، والذي يقول فيه: "إن الإمكانيات المادية أكبر عائق أمام مواصلة أبحاثنا. فالمعامل تحتاج إلى تطوير وتحديث وأجهزة.. حتى إن المباني تأكلت بفعل الرطوبة".
ووسط هذا الحال، لم ير مشروع "مباحث" النور أبدًا، حتى أكل الصدأ بدنها الحديدي وابتلعتها المياه في شتاء 1988، العام نفسه الذي توفي فيه حسين فوزي، وهو من رافقها في رحلتها الأولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"هي سفينة ذات طابع خاص، تذهب في مهام تاريخية لا تتكرر كثيرًا، وهذه المهام لم تحدث في حياة مباحث سوى مرتين ولكنها أكسبتها شهرة فريدة"
الباحثة أميرة داود، في مقالها "مباحث. علامة فارقة في تاريخ علوم البحار"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبينما تتلاشى "مباحث" أسفل مياه البحر للأبد؛ كانت سفينتان حديثتان تسير فيها باتجاه مصر كهدية من اليابان عن طريق الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (جايكا).
كان متوقعًا أن معهد علوم البحار هو من سيتسلم السفينتين، فهو بحاجة لهما، لكن على غرار المشاهد السينمائية المفاجئة، تسلمتهما الشركة المصرية للصيد التابعة لوزارة الزارعة!
صار اسمهما "اليرموك" و"سلسبيل"، وعملتا في أنشطة لها لنحو 10 سنوات حتى التفت إليهما معهد علوم البحار.
وجدت مديرته أنهما ذاتا غاطس جيد وأوناش صالحة ولاسلكي ولن تحتاج منهم سوى شراء بعض الأجهزة لاستخدامهما في مجال الأبحاث. فخاطبت الوزارة لإعارتهما ثم حصلوا على ملكيتهما في نوفمبر 1999، لتنطلق أولى رحلاتهما في يناير 2000، كما ذكرت إكرام أمين (رئيسة المعهد حينها).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنفوجرافيك
سلسبيل واليرموك
بطول 13 متراً و8 أمتار عرضاً
بهما أجهزة جمع العينات من مياه البحر على الأعماق المختلفة
وأجهزة لقياس درجات الحرارة والملوحة والآس الهيدروجينى
وأجهزة حديثة ((ROV لتصوير طبقات تحت الأرض
وأكثر من 20 شاشة
المصدر: رئيس المعهد القومي لعلوم البحار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجود السفينتين لم يُنس أحدًا "مباحث" وقصتها، بل العكس هو ما حدث وربما صَعبت المسؤولية على السفينتين الجديدتين، فذكرت جريدة الأهرام عام 2002، "أنه رغم البداية القوية لمباحث، إلا أن ما تم في العقود الأخيرة ما هو إلا جهود فردية وليس خطة قومية". ودعم هذه الصورة يوسف حليم (الأستاذ بقسم علوم البحار): "لقد انتهى عهد مصر بأعالي البحار، وتضاءل دورها لدراسة بضعة أمتار من الشريط الساحلي والبحيرات، لتسبقنا دول كاليونان، تركيا، وإسرائيل".
ويبدو أن عمال السفينتين أنفسهم لم تكن لديهم الطاقة اللازمة للرحلات الكبيرة، فعملت "سلسبيل" واليرموك" بطاقم واحد فقط من البحارة والفنيين بدلا من اثنين، وهو ما تسمح به بالكاد إمكانيات المعهد، حيث أن رواتبهم تصل إلى 10 آلاف جنيه، غير أن وقوف السفينة وحده يتكلف ألفي جنيه، وفقًا لخميس عبد الحميد (الأستاذ في المعهد والمشرف على سفن الأبحاث)، وهو ما مَثل ضغطا على الطرفين.
على أي حال، مَضى هؤلاء في عملهم القريب من "مباحث" الغارقة، وعلى الأغلب لم يعلم أحد منهم بأمرها، وعلى الجهة المقابلة منهم، اضطربت الأجواء بمعهد علوم البحار، حيث طالب أساتذة به – في إحدى الصحف بالفترة نفسها- وزير التعليم العالي لإجراء تحقيق فيما أسموه "المخالفات المالية الخطيرة بالمعهد، والتي تابعتها الأجهزة الرقابية".
سنوات الألفينات الأولى عمومًا لم تكن جيدة بالنسبة للمجال، فظهرت مكتبات ومشروعات اقترنت باسم "مبارك" أو زوجته، لكن لم تأخذ علوم البحار مساحة بين كل هذا. وبالتالي؛ فإذا تحدث أحد عن "مباحث"، فمن سيهتم بأمر سفينة غارقة؟، لكن اليونسكو فَعلت وعرضت مرة أخرى على جامعة الإسكندرية إنقاذ ما تبقى منها وتحويلها إلى متحف عائم.
رد فعل الجامعة جاء مفاده "بأنها ستدرس الأمر".
سنوات تالية، انشغل فيها باحثو المعهد بموضوعات التلوث وتدهور الإنتاج السمكي وخطر إلقاء مصدات الأمواج على الشواطئ دون دراسة كافية. فيما، لم تخرج سفينتا "اليرموك" و"سلسبيل" في رحلات بحثية سوى مرات قليلة، قدّرتها سوزان خليف (رئيس المعهد السابقة) بـ12 رحلة بين 1999 وحتى 2012.
ارتبطت قلة الرحلات بأسباب عدة، لعل أبرزها الإمكانيات المادية. فلا تقل تكلفة الرحلة الواحدة عن 100 ألف وقد تصل إلى مليون، كما يوضحها عمرو زكريا (رئيس المعهد الحالي). لذا لا يمكن توقع مصير آخر في وقت كانت مخصصات البحث العلمي في مصر لم تتخط 1% من الناتج المحلي، يؤخذ منها 2 مليون جنيه كميزانية سنوية للأبحاث بالمعهد.
شيئًا فشيئًا، تعطلت السفينتان تمامًا لعدم توفر المال اللازم لصيانتهما، بالتزامن مع الاضطرابات التي شهدتها مصر بعد ثورة يناير. وظلتا على هذا النحو لـ8 سنوات، وكأن مصير "مباحث" الحزين سيتكرر.
لكن نجت السفينتان في رأس التين بالإسكندرية، حيث ترسانة القوات البحرية، التي أجرت لهما عمرة شاملة. وفي حفل كبير حضره وزير التعليم العالي وقائد القوات البحرية (ديسمبر 2018)، أعلنا تدشينهما وأنهما عادتا من جديد.
تستقر السفينتان حاليا في ميناء الإسكندرية، وعلى بعد 6 كم بالسيارة منهما، يجلس أحمد النمر (مدير معهد علوم البحار بالإسكندرية) في مبنى قديم يجاور قلعة قايتباي المهددة بالغرق جراء التغير المناخي، تحيط به أوراق وتصاريح من جهات عدة. عليه أن يُجهزها لتتمكن "اليرموك" من الخروج من مرساها في رحلة قصيرة نحو البحر الأحمر، هدفها فيها جمع عينات من هناك، ومعرفة آثار التغيرات المناخية على حرارة المياه والكائنات البحرية.
كان الطقس باردًا والبحر غير مضمون استقراره رغم رصده مسبقًا. ومع ذلك، خرجت "اليرموك" وعلى متنها ستة باحثين فقط، يترأسهم وليد الصاوي (أستاذ مساعد بشعبة المصايد بالمعهد)، ويرافقهم نحو 15 بحارًا.
سارت "اليرموك" في البحر الأحمر كما سارت "مباحث" من قبل. لكن مرة بعد أخرى، تعرقل الظروف الجوية طريقها، ومعها يضطر طاقمها الانتظار كثيرًا بسبب كثرة الأمواج والنوات.
ولا مفاجأة في مفاجأة المناخ لـ"الصاوي"، فهو يدرك جيدًا كم صار حادًا ومتقلبًا؛ إذ بات تغير المناخ هو محور عملهم وأولويتهم الآن، فالإسكندرية والدلتا من أكثر المناطق الساحلية عرضةً لخطر الغرق نتيجة ارتفاع مستوى البحر الذي ترتب على ذوبان جليد القطب الشمالي لعلو درجة حرارة الأرض.
في نهاية المطاف، انتهى أمر رحلة "اليرموك" بقضاء 3 أسابيع في البحر الأحمر، عادت بعدها إلى ميناء الإسكندرية. ولم تتجاوز مدد رحلات السفينتين أكثر من ذلك منذ بداية عملهما، بل قد تستغرق يوما أو يومين فقط حسب هدفها، كما أنها لم تبحر أبدًا خارج حدود المياه المصرية، فكما يقول وليد الصاوي، "لم نصل لتلك المرحلة".
لكن "الصاوي" عاد سعيدًا برحلته الأخيرة بل يراها "ممتازة"، لأنهم تمكنوا من جمع عينات من محمية نبق وسفاجا والقصير من أعماق وصلت حتى 1000 متر.
وفي المرحلة التالية، سيكتب تقريره المفصل عن الرحلة. وكالمعتاد؛ تسير التقارير في مسار ثابت، يذكره عمرو زكريا (رئيس المعهد): "إذا كانت تخص مشروعًا وجهة ما يستلموها.. وإذا لأ، توضع في مركز المعلومات الخاص بنا.. لتكون موجودة عند حاجة الدولة لتلك المعلومات".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنفوجرافيك
نحو 30 رحلة بحثية للباخرتين اليرموك وسلسبيل
(2020 – 2022)
يعتمد المعهد على دخل ذاتي من المشروعات الحكومية والخاصة
115 مليون جنيه تخصصها له الدولة
المصدر: رئيس المعهد القومي لعلوم البحار
64 مليــار جنيه
مخصصــات البحــث العلمــي في موازنة (2021 – 2022) بزيادة نحــو 4 مليــارات جنيــه
المصدر: وزارة المالية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منذ تولى "زكريا" رئاسة المعهد، لم تكن مشكلته في الإمكانيات، التي يقول إنه يمكن تدبيرها، بقدر ما كانت في "الروتين والوقت الطويل ليتمكنوا من الخروج برحلة أو عمل استكشاف". وبالنسبة له، فالوقت هو أهم شئ، لأنه يسابقه للحاق بالدول الأخرى.
يرى أنه نجح في ذلك إلى حد كبير، فبعد أن كانت مصر خارج التصنيف منذ 3 سنوات، فالمعهد الآن – بحسب مؤشر سيماجو (SCIMAGO) المختص بتصنيف المؤسسات العلمية – حاصل على المركز 48 على العالم والـ17 في الشرق الأوسط. لكنه يسعى ليعود إلى المقدمة مثلما كان الحال وقت رحلتي "مباحث".
وفي اعتقاده أنه لو "كنا سرنا بنفس وتيرتها، لأصبحنا رقم 2 على العالم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنفوجرافيك
علوم البحار في العالم
1.7%
من ميزانيات الدول تذهب للبحوث في مجال العلوم البحرية
حوالي 924 سفينة بحثية في العالم
367 سفينة منها تملكها الولايات المتحدة
الكويت الأولى عربيًا كعدد باحثين وميزانية خاصة بالبحوث
المصدر: اليونيسكو - 2020
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بخطوات بطيئة، يدخل حسن البنا، الرجل السبعيني، قسم علوم البحار، وقد صار أقدم أساتذته وبمثابة "أرشيفه" المتنقل. يمر بجانب صور معلقة على الجدران في المدخل، تجسد رحلتي "مباحث" وطاقمها الذي فارق الحياة مثلها.
يلقي محاضرته، ويتحدث فيها عن "مباحث"، السفينة التي عَرفها وقت كان طالبًا بالقسم في منتصف الستينات، لكنه لم يجد بينهم من يعرفها.. يروي لهم قصتها الطويلة، ويبدو الأمر ثقيلا عليه حين يصل إلى نهايتها، إلى الجانب المحزن، وهو أنها غارقة خلفهم تحت أنقاض قلعة قايتباي.
قد تمر سفينتا سلسبيل واليرموك فوق رأسها كثيرًا. ولم تشفع كل رحلاتهما عند "البنا"، فيراها "غير مؤثرة".
ينهي محاضرته ويذهب إلى بيته؛ يلقي نظرة على علبة صغيرة يبدو عليها القدم وبها عينات بحرية. لا يريها لأحد ولا يسمح بتصويرها. والسر وراء ذلك، كما يقوله مبتسمًا، "إنها عينات من رحلة مباحث الثانية إلى البحر الأحمر".
كان الأمر مفاجئًا، فعينات "مباحث" غير الظاهرة في القسم عند زيارته، توجد بعضها في بيت حسن البنا!.. يتحدث الرجل عن أن عيناتها تفرقت، وجزء بسيط جدًا من أدواتها موجود بالقسم، كما أن امتلاكه لهذه الأشياء لم يسعده أبدًا، فكان يتمنى جَمعها في متحف.
ثم يقول بنبرة يائسة: "لقد مللت الحديث عن كل ذلك".
النبرة نفسها يمكن استنباطها من كلمات توني رايس، حين خاطبناه عبر البريد الإلكتروني لنسأله عن السفينة، التي كتب عنها تلك الرسالة التي عُرضت في ندوة الإسكندرية عام 1983. فقبل أن يتحدث: "كنت أتخيل أنني سأكون آخر من كتب عن مباحث".
وبينما يئس الرجلان وغرقت "مباحث" وفكرة إحيائها وتفرقت عيناتها، ينتصب في بهو المركز الوطني لعلم المحيطات بمدينة ساوثهامبتون البريطانية، نموذج لتمثال يصور فارسًا ذا شارب وعلى رأسه خوذة. يشكل هذا التمثال، القطعة المتبقية من سفينة "إتش إم إس تشالنجر"، التي قادها جون موراي منذ 150 عامًا، ويحتفظ متحف التاريخ الطبيعي بلندن بكامل عيناتها حتى الآن.